قَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ النَّفْلَ فِي كَلَامِهِمْ هُوَ زِيَادَةٌ مِنَ الْخَيْرِ، وَهُوَ ها هنا الزِّيَادَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُخْتَصُّ بِهَا بَعْضُ الْغَانِمِينَ دُونَ بَعْضٍ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: السَّلَبُ، يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالثَّانِي: ما ادعى إلى التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الظَّفَرِ، مِثْلَ: أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ مَنْ يُقَدَّمْ فِي السَّرَايَا إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ فَتَحَ هَذِهِ الْقَلْعَةَ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، أَوْ مَنْ قَتَلَ فُلَانًا فَلَهُ كَذَا، أَوْ مَنْ أَقَامَ كَمِينًا فَلَهُ كَذَا، فَهَذَا جَائِزٌ، سَوَاءً جَعَلَ مَا بَذَلَهُ مُقَدَّرًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ جَعَلَهُ شَائِعًا فِي الْغَنِيمَةِ كَقَوْلِهِ: فَلَهُ رُبْعُ الغنيمة أو ثلثها، أو جعله مقدار بِالسَّهْمِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: فَلَهُ نِصْفُ مِثْلِ سَهْمٍ، كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ إِذَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سِهَامُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا ثُمَّ نَفَلُوا بَعِيرًا.
وَرَوَى زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ مُسْلِمٍ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَفَلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بُدَائِهِ.
وَرَوَى مَكْحُولٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَنْفُلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرُّجْعَةِ الثُّلُثَ.
وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِإِنْفَاذِ سَرِيَّةٍ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجَعَلَ لَهَا الرُّبُعَ، وَالرُّجْعَةَ أَنْ يُنْفِذَ بَعْدَهَا سَرِيَّةً ثَانِيَةً فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ فَيَزِيدُ الثَّانِيَةَ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ بَعْدَ عِلْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالْأُولَى.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يُنْفِذَ سَرِيَّةً فِي ابْتِدَاءِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الرُّبُعَ، وَلِلْرُّجْعَةِ أَنْ يُنْفِذَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنْ دَارِ الْحَرْبِ فَيَجْعَلُ لَهَا الثُّلُثَ؛ لِأَنَّهَا بِرُجُوعِ الْجَيْشِ أَكْثَرُ تَغْرِيرًا مِنَ الْأُولَى.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْبُدَاءَةَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْقَوْلِ فَيَقُولُ مَنْ يَفْتَحُ هَذَا الْحِصْنَ وَلَهُ الرُّبُعُ إِمَّا مِنْ غَنَائِمِهِ وَإِمَّا مِثْلٌ مِنْ رُبْعِ سَهْمِهِ فَلَا يُجِيبُهُ أَحَدٌ فَيَرْجِعَ فَيَقُولُ ثَانِيَةً مَنْ يَفْتَحُهُ وَلَهُ الثُّلُثُ فَيُجَابُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بُدَاءَةً وَالثَّانِي رُجْعَةً، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَتَحَدَّدُ الْأَقَلُّ فِي الْبُدَاءَةِ بِالرُّبُعِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّهُ نَفَلَ نِصْفَ السُّدُسِ بَعِيرًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَا يَتَحَدَّدُ الْأَكْثَرُ فِي الرُّجْعَةِ بِالثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ وَكَانَ تَقْدِيرُهُ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ مُوكَلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute