قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ سَهْمًا يَخُصُّهُ لَمَا جَازَ فِيمَنْ فُقِدَ أَنْ يُرَدَّ سَهْمُهُ عَلَى مَنْ وُجِدَ، وَفِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَعَ فَقْدِ بَعْضِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ وُجُودِ بَعْضِهِمْ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا سَدُّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَمَّ بِهَا الْجَمِيعُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَمِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَعْضِ الصِّنْفِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهِ.
وَدَلِيلُنَا، قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: ٦٠] الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ أصناف الصدقة إلى الأصناف الثمانية بلا التَّمْلِيكِ وَعَطَفَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، وَكُلَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُمْلَكَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُمَلَّكَ اقْتَضَتِ الْإِضَافَةُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَمَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَشْخَاصِ تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِتَعْيِينِ الْمَالِكِ، وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْأَوْصَافِ لَا تُوجِبُ التَّمْلِيكَ لِلْجَهَالَةِ بِالْمَالِكِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَزَيْدٍ صَحَّ إِقْرَارُهُ، وَلَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِإِنْسَانٍ لَمْ يَصِحَّ إِقْرَارُهُ.
قِيلَ: قَدْ يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَصْنَافِ كَمَا يَصِحُّ تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ قَالَ قَدْ أَوْصَيْتُ بِثُلُثِ مَالِي لِلْفُقَرَاءِ وَالْغَارِمِينَ صَحَّ أَنْ يَمْلِكُوهُ كَمَا يَصِحُّ إِذَا أَوْصَى بِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ أَنْ يَمْلِكُوهُ.
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: مِنَ الْآيَةِ أَنَّ لِلْإِضَافَةِ وَجْهَيْنِ: تَشْرِيكٌ وَتَخْيِيرٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صِيغَةٌ، وَصِيغَةُ التَّشْرِيكِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو، فَيَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ وَلَا يَقْتَضِي تَفَرُّدَ أَحَدِهِمَا بِهِ، وَصِيغَةُ التَّخْيِيرِ تَكُونُ بِ " أَوْ " كَقَوْلِهِ: أَعْطِ هَذَا الْمَالَ لِزَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي إِعْطَائِهِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِضَافَةُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صِيغَةِ التَّشْرِيكِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُحْمَلُ مِلْكُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ لِجَمِيعِ الصَّدَقَاتِ لَا لِكُلِّ صَدَقَةٍ مِنْهَا فَنَدْفَعُ صَدَقَةَ زَيْدٍ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَصَدَقَةَ عَمْرٍو إِلَى الْمَسَاكِينِ وَصَدَقَةَ بَكْرٍ إِلَى الْغَارِمِينَ، قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أبا حنيفة لَا يَعْتَبِرُ هَذَا فِي الصَّدَقَاتِ.
وَالثَّانِي: أنه قد يجوز أن ينفق جَمِيعُ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ عَلَى صَرْفِهَا كُلِّهَا فِي أَحَدِ الْأَصْنَافِ فَلَا يُوجَدُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ صَدَقَةٍ لِمَنْ سُمِّيَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ: هَذِهِ الدُّورُ الثَّلَاثَةُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ كَانَتْ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَلَمْ يُجْعَلْ كُلُّ دَارٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي مِنَ