قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: وَالْغَارِمُونَ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: ٦٠] فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا وَهُمْ صِنْفَانِ:
صِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَصِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ.
وَالثَّانِي: فِي تَبْذِيرٍ.
وَالثَّالِثُ: فِي مَعْصِيَةٍ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ فَكَرَجُلٍ أَدَانَ فِي جَوَائِحَ أَصَابَتْهُ أَوْ نَفَقَاتٍ لَزِمَتْهُ أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَضَرَّتْ أَوْ زَكَوَاتٍ وَجَبَتْ وَحَجٍّ أُدِّيَ وَفَرْضٍ قُضِيَ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ وِاجِبَاتٍ أَوْ مُبَاحَاتٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى مَنْ صَارَ بِهَا غَارِمًا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَخْلُو مَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا أَوْ عَقَارًا فَإِنْ كَانَ مَالُهُ نَاضًّا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمَعُونَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو مُوسِرٌ مِنْ دَيْنٍ فَيَجْعَلُ كُلَّ الْمُوسِرِ مِنَ الْغَارِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَقَارًا مِنْ دُورٍ وَضِيَاعٍ كَفَى أَثْمَانُهَا بِدَيْنِهِ فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ قَوْلَانِ:
أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْمُوسِرِ بِمَالٍ نَاضٍّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَحُكِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى، لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ قضاء الدين إلا من عقار مستقا هُوَ بِالْمُعْسِرِينَ أَشْبَهُ عَنْهُ بِالْمُوسِرِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي تَبْذِيرٍ كَرَجُلٍ بَذَّرَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَأَسْرَفَ فِي الصِلاة وَالْهِبَاتِ لَا فِي بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَهَذَا لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ، وَلَهُ مَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ مِنْ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَلَأَنْ يَعُودَ تَبْذِيرُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ نَاضٍّ وَلَا عَقَارٍ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْغُرْمِ وَالْحَاجَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَعْصِيَةٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْغِنَى بِمَالٍ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ؛ لِأَنَّ مَالَهُ فِي غُرْمِ الْمَعَاصِي أَوْلَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْفَقْرِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِبَقَاءِ الْغُرْمِ مَعَ زَوَالِ الْمَعْصِيَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ غُرْمٌ سببه المعصية.