وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَتْ: إِنْ أَبِي وَنِعْمَ الْأَبُ هُوَ زَوَّجَنِي بِابْنِ أَخٍ لَهُ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ فَرَدَّ نِكَاحَهَا.
فَقَالَتْ قَدِ اخْتَرْتُ مَا فَعَلَ أَبِي، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ لِيَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي نِكَاحِهِ كَالرَّجُلِ طَرْدًا وَالصَّغِيرِ عَكْسًا، ولأنه عقد يجوز أن يتصرف فيه الرجل فجاز أن تتصرف فيه المرأة كالبيع، ولأنه عقد على منفعة فجاز أن تتولاه المرأة كالإجارة، ولأن لما جاز تصرفها في المهر وهو بدل من العقد جاز تصرفها في العقد.
وتحريره: أن من جاز تصرفه في البدل جاز تصرفه في المبدل كالبالغ في الأموال طرداً وكالصغير عَكْسًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ قَوْله تَعَالَى: {فَلاَ تَعْضِلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: ٢٣٢) فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ عَضْلِهِنَّ، والعضل المنع في أحد التأويلين، والتضييق فِي التَّأْوِيلِ الْآخَرِ، فَلَوْ جَازَ لَهُنَّ التَّفَرُّدُ بِالْعَقْدِ لَمَا أَثَّرَ عَضْلُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ نَهْيٌ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) {البقرة: ٢٣٢) . وَالْمَعْرُوفُ مَا تناوله العرف بِالِاخْتِيَارِ وَهُوَ الْوَلِيُّ وَشَاهِدَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَنْعُ من العضل إنما توجه إلى الأزواج لتقديم ذِكْرِهِمْ دُونَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآية ذكر، فمن ذلك جوابان:
أحدهما: أنه لا يجوز توجيه النَّهْيِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّهُ إِنْ عَضَلَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِدَّةِ فَحَقٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، وَإِنْ عَضَلَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ سَبَبِ نُزُولِهَا فِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ فِي أَشْهَرِ القولين أو جابر في أضعفهما يوجب حمله عَلَى الْأَوْلِيَاءِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ يُنْكَرُ أَنْ يَعُودَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ إِذًا دَلَّ الْخِطَابُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) {العاديات: ٦، ٧) يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى: {وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ) {العاديات: ٨) . يَعْنِي الْإِنْسَانَ وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَنْكِحُوهٌنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) {النساء: ٢٥) أَيْ أَوْلِيَائِهِنَّ، فَجَعَلَ إِذَنَ الْأَوْلِيَاءِ شَرْطًا فِي نِكَاحِهِنَّ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِعَدَمِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَأَنَسٌ، وَعِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَثْبَتُ الرِّوَايَاتِ رِوَايَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ ".