وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا " وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم عن أبيه أن عائشة كَانَ إِذَا هَوَى فَتًى مِنْ بَنِي أَخِيهَا فتاة من بنات أخيها أرسلت سراً وَقَعَدَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَتَشَهَّدَتْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا النِّكَاحُ قَالَتْ: يَا فُلَانُ أنْكِحْ وَلِيَّتَكَ فُلَانَةً فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَنْكِحْنَ، وَهَذَا أمر مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُعْرَفُ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرْأَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهَا فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا وِلَايَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَعْقِدَهُ الْمَرْأَةُ لِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ أن تعقده لغيرها كعقد الإمامة.
فأما الجواب عن حديث عائشة فهو أنه لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوِلَايَةِ النَّسَبِ لكان بالمنكوحة مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوِلَايَةِ مِنْهَا مِنْ إِخْوَةٍ، وَأَعْمَامٍ، لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ كَانَ لَهُ أخوة وأولاد هم أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا مِنْ عَائِشَةَ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ وعمة الْمَنْكُوحَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتْهَا بِوَكَالَةِ أَبِيهَا عبد الرحمن لما افتاتت عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ.
وَالثَّالِثُ: إنَّهَا هِيَ الرَّاوِيَةُ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " (أَيُّمَا امْرَأَةٍ) نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا باطل " وهي لا تخالف ما روته.
الرابع: أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا خَطَبَتْ فِي الْمَنَاكِحِ قَالَتْ: " يَا فُلَانُ أنْكِحْ وَلِيَّتَكَ فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا ينكحن " وإذا لم يمكن حمله على ظاهره من هذه الوجوه الأربع وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ فَيُحْمَلُ عَلَى أحد ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَكَّلَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يقوم بتزويج بنته وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى رَأْيِ عَائِشَةَ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُزَوِّجُهَا بِهِ فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بتزويج منذر بن الزبير.
فإن قيل: فلما أَنْكَرَ وَقَدْ وَكَّلَ.
قِيلَ: لِأَنَّ مُنْذِرًا قَدْ كَانَ خَطَبَ إِلَيْهِ فَكَرِهَهُ لِعُجْبٍ ذَكَرَهُ فِيهِ، فَأَحَبَّتْ عَائِشَةُ مَعَ مَا عَرَفَتْهُ مِنْ فَضْلِ منذر أنه يصل الرحم، وتزوج بِنْتَ أَخِيهَا بِابْنِ أُخْتِهَا، لِأَنَّ مُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ حِينَ اخْتَارَتْ مُنْذِرًا سَأَلَتِ السُّلْطَانَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بِغَيْبَتِهِ لَا تَزُولُ وِلَايَتُهُ وَيَنُوبُ السُّلْطَانُ عنه عندنا، وعند أبي حنيفة، وينوب عنه من بعده من الأولياء وعند مَالِكٍ فَكَرِهَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِنْ لَمْ يُسْتَأْذَنْ فِيهِ وَيُطَالِعْ بِهِ وَيَكُونُ إِضَافَةُ