للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي كِتَابِ " التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ مِنْ كُتُبِ الْأَمَالِي ": إِنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة اسْتِدْلَالًا بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ إِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لِلْبَذْلِ الصَّرِيحِ وَجَوَابُ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ) {الأعراف: ٤٤) . أي نعم وجدناه، وَكَقَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى) {الأعراف: ١٧٢) . أَيْ: بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا، وَكَمَا لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَسَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهَا، وقال أله عليك ألف، فقال: نعم، كان إقرار منه بالألف وجرى مجرى قوله: نعم له عَلَيَّ أَلْفٌ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي النِّكَاحِ قَدْ قَبِلْتُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْبَذْلِ الصَّرِيحِ قَبُولًا صَرِيحًا فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ: قَبِلْتُ نكاحها.

والثاني: إن البذل والقبول معتبر في عقد النكاح كاعتباره فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: قَبِلْتُ إِنَّ الْبَيْعَ قَدِ انْعَقَدَ وَجَرَى ذلك مجرى قوله قبلت هذا البيع، ويجب أن يكون النكاح بمثابته قد زوجكتها فقال الزوج قبلت أن ينعقد النكاح فجرى مَجْرَى قَوْلِهِ قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إذا جعلناه قبولاً صحيحاً يَكُونُ قَبُولًا لِلنِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ جَمِيعًا، لِأَنَّ الْقَبُولَ مطلق فرجع إلى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ وَخَالَفَ قَوْلَهُ: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا حَيْثُ جَعَلْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى قَبُولِ النِّكَاحِ الَّذِي سَمَّاهُ دُونَ الصَّدَاقِ الَّذِي أغفله، لأن مع التسمية تصير تَخْصِيصًا وَمَعَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ عُمُومًا، وَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ، وَهُوَ أَصَحُّ القولين فدليله ما قدمناه أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: قَبِلْتُ فِيهِ مَعْنَى التصريح وليس بصريح فينعقد بِهِ النِّكَاحُ وَجَازَ أَنْ يَنْعَقِدَ بِهِ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ يَتِمُّ بِالصَّرِيحِ وَبِمَعْنَى الصَّرِيحِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ، وَلَيْسَ إِطْلَاقُ جَوَابِ الصَّرِيحِ يَكُونُ صَرِيحًا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَلَا تَرَى لَوْ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا، فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي طَلَاقِهَا، وَإِنْ كَانَ جَوَابًا، ولو قال: نعم أنت طالق لم تكن ثَلَاثًا، وَإِنْ سَأَلَتْهُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَسْلَمِ الِاسْتِدْلَالُ بالبيع لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَلَا كَانَ إِطْلَاقُ الْجَوَابِ كَالصَّرِيحِ، لِمَا ذَكَرْنَا، فَأَمَّا إِذَا قرن النكاح بينهما بواسط مِنْ حَاكِمٍ أَوْ خَطِيبٍ فَقَالَ لِلْوَلِيِّ: زَوَّجْتَهُ فلانة، فقال: نعم، فقال الزوج: قَبِلْتُ نِكَاحَهَا، فَقَالَ: نَعَمْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ قولاً واحداً، لأن صريح اللفظ لم يؤخذ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَقَالَ أبو حنيفة: يَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ وَاعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ فِي أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ بِعْتَهُ عَبْدَكَ هَذَا بألف فقال: نعم، وقال المشتري: اشتريته بالألف، فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْبَيْعَ مُنْعَقِدٌ فَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، وهذا خطأ لما ذكرنا مِنْ أَنَّ مَعْنَى الصَّرِيحِ لَا يَقُومُ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ الصَّرِيحِ وَيَقُومُ فِي الْبَيْعِ مَقَامَ الصَّرِيحِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا خَالَفَ الْبَيْعَ فِي تَغْلِيظِهِ بِالْوَلِيِّ والشاهدين

<<  <  ج: ص:  >  >>