وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: هل لك فيما صنعت نفسك في المتعة حتى صارت به الركاب، وقال الشَّاعِرُ:
(أَقُولُ لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ مَجْلِسُهُ ... يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسْ)
(يَا صَاحِ هَلْ لَكَ فِي بَيْضَاءَ بَهْكَنَةٍ ... تكون مثواك حتى يصدر النَّاسْ)
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا إِلَى هَذَا ذهبت، وقام يوم عرفة فقال: يأيها النَّاسُ إِنَّهَا وَاللَّهِ لَا تَحِلُّ لَكُمْ إِلَّا ما تَحِلُّ لَكُمُ الْمَيَّتَةُ وَالدَّمُ، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، يَعْنِي إِذَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا فَصَارَ الْإِجْمَاعُ بِرُجُوعِهِ مُنْعَقِدًا وَالْخِلَافُ بِهِ مُرْتَفِعًا وَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ أَوْكَدُ، لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُجَّةٍ قَاطِعَةٍ وَدَلِيلٍ قَاهِرٍ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أنه حل عقد جاز مطلقاً مُؤَقَّتًا كَالْبَيْعِ طَرْدًا وَالْإِجَارَةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِصِحَّتِهَا وَيَنْتَفِي عَنْ فَاسِدِهَا، وَهِيَ الطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْعِدَّةُ، وَالْمِيرَاثُ، فَلَمَّا انْتَفَتْ عَنِ الْمُتْعَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ دَلَّ عَلَى فَسَادِهِ كَسَائِرِ الْمَنَاكِحِ الْفَاسِدَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) {النساء: ٣) فَهُوَ إِنَّ الْمُتْعَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ اسْمَ النِّكَاحِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا اخْتَصَّ بالدوام لذلك قيل: قد استنكحه المدى لمن دام به، فلم يدخل فِيهِ الْمُتْعَةُ الْمُؤَقَّتَةُ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا لَخُصَّ بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: ٢٤) فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَوَيَا أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْمِيرَاثِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ فِي النِّكَاحِ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى يَعْنِي بِهِ الْمَهْرَ دُونَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَالْإِبَاحَةُ فِيهِ مَنْسُوخَةٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا تَفَرُّدُ عُمَرَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا فَمَا تَفَرَّدَ بِهِ، وقد وافقه عليه الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فَاخْتَصَّ بِالْإِعْلَانِ وَالتَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُقْدِمُ عَلَى تَحْرِيمٍ بِغَيْرِ دليل، ولكانوا قد أقدموا عليه بمسكون عَنْهُ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت تكرمة لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْلَاكُمْ بِهَا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَعْطَانَا اللَّهُ وَيَمْنَعُنَا ابْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ عُمْرُ: وَأَيْنَ أَعْطَاكُنَّ فَقَالَتْ: بقوله: {وَءاتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) {النساء: ٢٠) فَقَالَ عُمَرُ: كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حتى امرأة. .