الْقُرْآنُ كُلُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: ٣٥] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَعْتَقِدُونَهَا عِبَادَةً وَإِنْ كَانَتْ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً. وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَفِي التَّصْدِيَةِ تَأْوِيلَانِ:
أحدها: التَّصْفِيقُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: الصَّدُّ عَنِ الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ زَيْدٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَافَّةِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ قَدْ كَانَ لَهَا فِي اللِّسَانِ حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ فَكَانَتْ حَقِيقَتُهَا مَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ وَمَجَازُهَا مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْحَقِيقَةِ فِيهَا فَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ سُمِّيَتِ الصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ صَلَاةً عَلَى سِتَّةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ أَشْهَرُهَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لما يتضمنها من الدعاء والذي هُوَ مُسَمًّى فِي اللُّغَةِ صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تعالى: {وصل عليهم إن صلواتك سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: ١٠٣] أَيِ ادْعُ لَهُمْ وَقَالَ الْأَعْشَى:
(تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبَتْ مُرْتَجَلًا ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا)
(عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتُ فَاغْتَمِضِي ... يَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا)
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِمَا يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهَا مِنَ الْبَرَكَةِ فِي دِينِهِ ودنياه والبركة وتسمى صلاة قال الشاعر:
(وصهباء طاف بها يَهُودِيُّهَا ... وَأَبْرَزَهَا وَعَلَيْهَا خُتُمْ)
(وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمْ)
يَعْنِي: أَنَّهُ دَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّهَا تَقْضِي إِلَى الْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودُ الشَّيْءِ أَحَقُّ بِإِطْلَاقِ اسْمِهِ عليه مما ليس مقصود فِيهِ، وَالْمَغْفِرَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ يُسَمَّى صَلَاةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: ١٥٧] يُرِيدُ بِصَلَوَاتِ اللَّهِ: الْمَغْفِرَةَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَهَا الرَّحْمَةَ. قَالَ الشَّاعِرُ:
(صَلَّى عَلَى يَحْيَى وَأَشْيَاعِهِ ... رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاعٌ)