فَإِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فَهَذَا الْبَابُ مَقْصُورٌ عَلَى نُشُوزِ الزَّوْجَةِ وَلَا يَخْلُو حَالُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخَافَ نُشُوزَهَا بِأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارٍ لَهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهَا أَنْ تُلَبِّيَ دَعْوَتَهُ وَتُسْرِعَ إِجَابَتَهُ وَتُظْهِرَ كَرَامَتَهُ فَتَعْدِلُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَا تُلَبِّي لَهُ دَعْوَةً وَلَا تُسْرِعُ لَهُ إِجَابَةً وَلَا تُظْهِرُ لَهُ كَرَامَةً وَلَا تَلْقَاهُ إِلَّا مُعَبِّسَةً وَلَا تُجِيبُهُ إِلَّا مُتَبَرِّمَةً لَكِنَّهَا مُطِيعَةٌ لَهُ فِي الْفِرَاشِ، فَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ النُّشُوزِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نُشُوزًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَظْهَرَ مِنْهَا ابْتِدَاءُ النُّشُوزِ الصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ عَلَيْهِ وَلَا مُدَاوَمَةٍ لَهُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تُصِرَّ عَلَى النُّشُوزِ الصَّرِيحِ وَتُدَاوِمُهُ وَإِذَا كان لها النُّشُوزِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَتَهَا عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ: وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثِ، هَلْ تُرَتَّبُ عَلَى الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ مُتَرَتِّبَاتٌ عَلَى أَحْوَالِهَا الثَّلَاثِ وَيَكُونُ التَّرْتِيبُ مُضَمَّنًا فِي الْآيَةِ وَيَكُونُ مَعْنَاهَا إِنْ خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِنْ أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا، فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَى النُّشُوزِ ضَرَبَهَا، وَيَكُونُ هَذَا الْإِضْمَارُ فِي تَرْتِيبِهَا كَالْمُضْمَرِ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقْطَعَ أَيْدِيهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ) {المائدة: ٣٣) وَإِنَّ مَعْنَاهَا الْمُضْمَرَ فِيهَا: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا إِنْ قَتَلُوا، وَأَخَذُوا الْمَالَ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، كَذَلِكَ آيَةُ النُّشُوزِ، لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي ذُنُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَلَا تَكُونُ كَبَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ، وَلَا صَغَائِرُ الْعُقُوبَاتِ لِكَبَائِرِ الذُّنُوبِ، فَأَوْجَبَ اخْتِلَافُ الْعُقُوبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى اخْتِلَافِ الذُّنُوبِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَذَكَرَ احْتِمَالَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الثَّلَاثَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَالَيْنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ إِنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا وَهَجَرَهَا فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ ضَرَبَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا خَافَ نُشُوزَهَا وَعَظَهَا، فَإِذَا أَبْدَتِ النُّشُوزَ هَجَرَهَا وَضَرَبَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَامَتْ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعُقُوبَةَ هِيَ الضَّرْبُ وَمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْعِظَةِ وَالْهَجْرِ إِنْذَارٌ وَالْعُقُوبَةُ تَكُونُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذُّنُوبِ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute