وَحَكَى جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تَجِبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. فَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ نَفْلًا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْفَرْضِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ: أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً مُرَاعَاةً، فَإِنْ بَقِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَيَقُّنًا أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَإِنْ زَالَ عَنْ صِفَةِ التَّكْلِيفِ تَبَيَّنَّا أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَهَكَذَا قَالَ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْخِيرِهَا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهَا فِيهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِيهِ وَلَا يَقْضِي بِتَأْخِيرِهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ اشْتِرَاطُ الْعَزْمِ فِي تَأْخِيرِهَا لِإِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ عَلَى صِفَةِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَزْمِ فَإِنْ أَخَّرَهَا مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى فِعْلِهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِنْ كَانَ لَهَا مُؤَدِّيًا، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ إِذَا بَقِيَ مِنْهُ قَدْرُ الْإِحْرَامِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: تَجِبُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرَ تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَحَّ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي زَمَانٍ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ عَنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ زَمَانٍ لَمْ يَجِبْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا جَازَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَجِبُ بِآخِرِهِ، وَلِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ كَمَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِآخِرِ الْحَوْلِ لَا بِأَوَّلِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَقْتَضِي أَنْ تَجِبَ بِآخِرِ الْوَقْتِ لَا بِأَوَّلِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ بَيَّنَ لَهُ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَآخِرَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ - يَعْنِي - وَقْتَ الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الْأَمْرَيْنِ، وَلِأَنَّهَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ الْمَحْضَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ فِعْلِهَا الْمَتْبُوعُ وَقْتًا لَهَا فِي الْوُجُوبِ، كَالصِّيَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ كَانَ الْمُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّيًا كَانَ الْفَرْضُ بِهِ وَاجِبًا كَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ، لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ، وَلَيْسَ بِأَدَاءٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلِأَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِالْوَقْتِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ شَيْئَانِ، الْوُجُوبُ وَالْأَدَاءُ فَلَمَّا كَانَ آخِرُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمَانِ مَعًا، لِأَنَّ أَوَّلَهُ مَتْبُوعٌ، وَآخِرَهُ تَابِعٌ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ أَصْلٌ، وَالْأَدَاءَ فَرْعٌ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ الْوَقْتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَدَاءُ وَهُوَ فَرْعٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فَهُوَ: إِنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ وَقْتٌ إِلَى بَدَلٍ وَهُوَ فِعْلُهَا فِي ثَانِي وَقْتٍ وَتَرْكُ الشَّيْءِ إِلَى بَدَلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ لَمْ يَدُلُّ تَرْكُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ الْوَاجِبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ.
مُوَسَّعُ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقُ الْوَقْتِ فَمَا ضُيِّقَ وَقْتُهُ فَحَدُّهُ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَا وُسِّعَ وَقْتُهُ فليس حده
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute