فِي الطَّلَاقِ، قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ اسْتِعْمَالَ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الطَّلَاقِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ قَصَدَ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ كَانَ صَرِيحًا فِيهَا كَالطَّلَاقِ، وَقَدْ وَرَدَ الْقُرْآنُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا الطَّلَاقُ فَبِقَولِهِ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩] . وَبِقَوْلِهِ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] . وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا السَّرَاحُ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وَقَالَ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب: ٢٨] . وَأَمَّا الْفِرَاقُ فَبِقَوْلِهِ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: ٢] . اعْتَرَضُوا عَلَى هَذِهِ الدَّلَالَةِ، وَهِيَ دَلَالَةُ الشَّافِعِيِّ بِخَمْسَةِ أَسْئِلَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: هَذَا مُنْتَقِضٌ بِالْفِدْيَةِ، قَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْفُرْقَةِ بِقَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: ٢٢٩] . وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِدْيَةَ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِي حُكْمِهِ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَقْصُودَ الْفِدْيَةِ اسْتِبَاحَةُ مَالِهَا بِهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: ٢٠] . فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: ٢٢٩] .
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: الْكِنَايَةُ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ فِي الْعِتْقِ بِقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣] . وَالْفَكُّ قَدْ وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي العتق بقوله: {وما أدراك ما العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: ١٢، ١٣] . وَلَيْسَ الْكِنَايَةُ وَالْفَكُّ مِنْ صَرِيحِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ السَّرَاحُ وَالْفِرَاقُ جَازَ وَإِنْ وَرَدَ بِهِمَا الْقُرْآنُ أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ.
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ يَلْزَمُ إِذَا كَانَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الطَّلَاقِ صَرِيحًا، أَنْ يَكُونَ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ فِي الطَّلَاقِ صَرِيحًا وَلَا يَكُونُ افْتِرَاقُهُمَا فِيهِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ الْمُرَادُ بِهَا الْعَقْدُ الْمَكْتُوبُ بَيْنَ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ دُونَ الْعِتْقِ وَهِيَ صَرِيحٌ فِيهِ، وَأَمَّا فَكُّ الرَّقَبَةِ، فَلِنُزُولِ ذلك سبب، وهو أن أبا الأشد ابن المحيي كَانَ ذَا قُوَّةٍ يُدِلُّ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: ١١] . أَيْ أنه وإن ذل بِقُوَّتِهِ فَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى اقْتِحَامِ الْعَقَبَةِ، إِلَّا