زَيْدًا، فَقَدْ أَثْبَتَ مَجِيءَ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، وَنَفَى مَجِيءَ زَيْدٍ إِلَيْهِ، لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْهُمْ وَلَوْ قَالَ: ما جاءني أحداً إلا زيد، فَقَدْ نَفَى مَجِيءَ أَحَدٍ وَأَثْبَتَ مَجِيءَ زَيْدٍ لِاسْتِثْنَائِهِ منْ نَفي، وَإِذَا عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى جُمْلَةٍ، كَانَ الْمُرَادُ بِهَا، مَا بَقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهَا، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً كَانَ إِقْرَارُهُ بِسَبْعَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِئًا: عَلَيَّ سَبْعَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: ١٤] . فَكَانَ كَقَوْلِهِ: تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ اسْتِثْنَاءٌ ثَانِي بَعْدَ أَوَّلٍ وَثَالِثٌ بَعْدَ ثَانِي فَيَعُودُ الْأَوَّلُ إِلَى الْمُسْتَثْنَى نَقَصَ فِيهِ إِثْبَاتًا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ نَفْيًا، وَالثَّانِي إِثْبَاتًا، وَالثَّالِثُ نَفْيًا لِمَا ذَكَرْنَا، مِنْ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً إِلَّا خَمْسَةً، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِثْبَاتٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ إِلَّا سَبْعَةً نَفْيًا لَهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَقَطَتْ مِنْهَا بَقِيَتْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا قَالَ: إِلَّا خَمْسَةً عَادَ إِلَى السَّبْعَةِ وَهِيَ نَفْيٌ، فَكَانَتِ الْخَمْسَةُ إِثْبَاتًا فَزِيدَتْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ، فصارت ثمانية، وصار مستثناً لِاثْنَتَيْنِ مِنْ عَشَرَةٍ، لِأَنَّ الْخَمْسَةَ الْمُسْتَثْنَاةَ مِنَ السَّبْعَةِ يَبْقَى مِنْهَا اثْنَتَانِ فَصَارَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ الْعَشَرَةِ، وَشَاهِدُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ: {قَالُوا إِنَّا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: ٥٨ - ٦٠] . فَاسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فِي الْهَلَاكِ ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَةَ لُوطٍ مِنْ آلِ لُوطٍ الْمُنَجَّوْنَ مِنَ الْهَلَاكِ، فَصَارَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ يَأْتِي بِوَاوِ الْعَطْفِ، كَانَا اسْتِثْنَاءً وَاحِدًا كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا ثَلَاثَةً، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، لِأَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ تَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَمَتَى كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَافِعًا لِجَمِيعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَثَبَتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً، ثَبَتَ إِقْرَارُهُ بِالْعَشَرَةِ وَبَطَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ لِلْعَشَرَةِ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِبْقَاءِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ لَا لِرَفْعِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: جَاءَ بَنُو تَمِيمٍ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: إِلَّا الصبيان، لأن في الأول رافع، وفي الثاني مبقي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَافِعًا لِلْأَوَّلِ، مُبْقِيًا للأكثر إجماعاً كقوله: علي عشرة إلا درهم، فَيَبْقَى تِسْعَةٌ يَكُونُ مُقِرًّا بِهَا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ رَافِعًا لِلْأَكْثَرِ مُبْقِيًا لِلْأَقَلِّ جَازَ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، فَيَقُولُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً، فَيَكُونُ مُقِرًّا بِدِرْهَمٍ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ دَرَسْتَوَيْهِ مِنَ النُّحَاةِ، أَنَّهُ أَبْطَلَ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا كَانَ رَفْعَ الْأَكْثَرَ، وَأَبْقَى الْأَقَلَّ وَهُوَ قَوْلٌ مُطْرَحٌ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدْفَعُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute