وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي: وَأَنَّهَا لَا تَرِثُ وَهُوَ أَقِيسُ الْقَوْلَيْنِ وَأَوْلَاهُمَا فَدَلِيلُهُ: مَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمَكِّيُّ فِي خِلَافِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: (لَا تَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ) وَهَذَا إِذَا صَحَّ نَصٌّ لَا يَسُوغُ خِلَافُهُ، وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ تَقْطَعُ إِرْثَهُ مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَقْطَعَ إِرْثَهَا مِنْهُ، أَصْلُهُ الْفُرْقَةُ فِي الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّهُ إِرْثٌ يَنْقَطِعُ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ، أَصْلُهُ إِرْثُ الزَّوْجِ، وَلِأَنَّ لِلنِّكَاحِ أَحْكَامًا مِنْ طَلَاقٍ وَظِهَارٍ وَإِيلَاءٍ وَتَحْرِيمٍ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا وَخَالَتِهَا وَعَمَّتِهَا وَثُبُوتِ الْمِيرَاثِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ، فَلَمَّا انْتَفَى عَنْ هَذِهِ الْمَبْتُوتَةِ فِي حَالِ الْمَرَضِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ الْمِيرَاثِ، انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ فِي الْمِيرَاثِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ سَبَبٌ مِنْ جِهَتِهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ مِيرَاثَهُ مِنْهَا، وَإِنْ تَوَجَّهَتِ التُّهْمَةُ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا بَيْنَ وُجُودِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ يَمْنَعُ مِيرَاثَهَا مِنْهُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ: فَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا حَاصِلٌ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَرَ أَنْ تَرِثَ مَبْتُوتَةٌ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُوَرِّثُ تَمَاضُرَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَقِيلَ لَهُ أَفَرَرْتَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: مَا فَرَرْتُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَهَا فِيهِ مِيرَاثٌ فَأَعْطُوهَا فَصَالَحَهَا عُثْمَانُ مِنْ رُبُعِ الثَّمَنِ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَلَوْ كَانَتْ وَارِثَةً فَصُولِحَتْ، فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِجْمَاعًا.
وَلَكِنْ لِاحْتِمَالِ الْأَمْرِ عِنْدَ عُثْمَانَ تَقَدَّمَ بِمُصَالَحَتِهَا.
وَجَوَابُ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِي الطَّلَاقَ إِلَّا طَلَّقْتُهَا فَغَضِبَتْ تَمَاضُرُ وَسَأَلْتِ الطَّلَاقَ، فَغَضِبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلَّقَهَا. وَتَمَاضُرُ هِيَ أُمُّ أَبِي مَسْلَمَةَ وَهُوَ أَعْرَفُ بِحَالِهَا، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا سَأَلَتِ الطَّلَاقَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُورِّثُهَا إِذَا سَأَلَتْ طَلَاقَهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ لَوْ كَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا، وَأَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ طَلَاقِهَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تَرِثُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عَدَّتِهَا، فَخَرَجَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ مَاتَ فِي عِدَّتِهَا بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ، قِيلَ: أَبُو سَلَمَةَ أَعْرَفُ بِحَالِهَا؛ لِأَنَّهُ ابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَلِأَنَّ نَقْلَهُ أَزْيَدُ فَكَانَ الْأَخْذُ به أحق.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute