يقولون: زنا فَلَانٌ، فَلَا حَدَّ عَلَى حَاكِي الْقَذْفِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاذِفٍ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَاذِفِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ بِحَدٍّ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَوِ الْإِمَامِ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ المقذوف هل زنا أَمْ لَا؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: ١٢] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِهَزَّالٍ: " هَلَّا سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ يَا هَزَّالُ ".
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَيَّنَ فِيهِ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ، كَقَوْلِ رجل للإمام: زنا فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةٌ، فَيَكُونُ الْقَاذِفُ وَالْمَقْذُوفُ مُعَيَّنَيْنِ، فلا يجوز للإمام أن يسأل المقذوف هل زنا أَمْ لَا؟ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ حَدَّ اللَّهِ عَلَيْهِ ".
وَهَلْ يَلْزِمُ الْإِمَامَ إِعْلَامُ الْمَقْذُوفِ بِحَالِ قَذْفِهِ لِيُطَالِبَ قَاذِفَهُ بِحَدِّهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِالْقَذْفِ حَقٌّ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَزِمَ الْإِمَامَ حِفْظُهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ إِنْ شَاءَ كَمَا يَلْزَمُهُ إِعْلَامُهُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ، لِجَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ فِي قَوْلِهِ: " أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ " وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُنَيْسًا حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا لِهَذَا، وَأَنَّهُ زنا بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ: " يَا أُنَيْسُ اغْدُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " فَكَانَ إِيفَادُ أُنَيْسٍ إليها لا ليسألها عن الزنى هَلْ زَنَتْ أَمْ لَا؟ وَلَكِنْ لِيُخْبِرَهَا بِحَالِ قَاذِفِهَا، فَإِنْ أَكْذَبَتْهُ وَطَلَبَتْ حَدَّهُ حُدَّ لَهَا، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَاعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا حُدَّتْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُهُ، لِأَنَّهَا حُدُودٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " جَنْبُ الْمُؤْمِنِ حِمًى ".
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ أن يعدي قَذْفَ الْغَائِبِ إِلَى قَذْفِ حَاضِرٍ مُطَالِبٍ كَرَجُلٍ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ سَمَّاهُ فَلَاعَنَ الزَّوْجُ مِنْهَا لَمْ يَلْزَمِ الْإِمَامَ إِعْلَامُهُ، لِأَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ يُسْقِطُ مِنَ الْقَذْفِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْلِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَرِيكًا حِينَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ الْقَذْفُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِزِنَاهَا بِهِ فَحَضَرَ أَحَدُهُمَا مُطَالِبًا بِالْحَدِّ لَمْ يَلْزَمِ الْإِمَامَ إِعْلَامُ الْآخَرِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ إِذَا اسْتَوْفَى الْحَدَّ فَهُوَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغَائِبِ، لِأَنَّ فِي زَوَالِ الْمَعَرَّةِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالْحَدِّ فِي قَذْفِهِمَا زَوَالًا لِلْمَعَرَّةِ عَنْهُمَا، لِأَنَّ الزِّنَا وَاحِدٌ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ قَذْفُ الْغَائِبِ بِحَاضِرٍ فَيُطَالِبُ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِعْلَامُ الْغَائِبِ لِيَسْتَوْفِيَ بِالْمُطَالَبَةِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ كَمَا أَوْفَدَ أُنَيْسًا إِلَى الْمَرْأَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute