وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ نَسْخًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَقْلُ نَسْخٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَقْلُ النَّسْخِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فَعَلِمَتْ عَائِشَةُ الْعَشْرَ وَنَسْخَهَا بِالْخَمْسِ فَرَوَتْهَا وَرَجَعَتْ إِلَى الْخَمْسِ، وَعَلِمَتْ حَفْصَةُ الْعَشْرَ، وَلَمْ تَعْلَمْ نَسْخَهَا بِالْخَمْسِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِالْعَشْرِ دُونَ الْخَمْسِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو كَانْتَ زَوْجَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ سَالِمًا كُنَّا نَرَاهُ وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيٌّ وَأَنَا فُضُلٌ وَقَدْ نَزَلَ مِنَ التَّبَنِّي وَالْحِجَابِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَمَاذَا تُرَانِي، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَرَضِعِيهِ خَمْسًا يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ "، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ " يَحْرُمُ بِهِنَّ عَلَيْكِ " فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْرُمَ بِمَا دُونَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حُكْمِهِ فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ بِالْخَمْسِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ سَالِمٍ حَالُ ضَرُورَةٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ وَلَوْ وَقَعَ التَّحْرِيمُ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَالُوا: هَذَا وَارِدٌ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَرِضَاعُهُ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ، فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ.
وَالثَّانِي: عَدَدُ مَا يَقَعُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَنَسْخُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: ١٥] فَاشْتَمَلَتْ عَلَى حُكْمَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: عَدَدُ الْبَيِّنَةِ فِي الزِّنَا.
وَالثَّانِي: إِمْسَاكُهُنَّ فِي الْبُيُوتِ إِلَى الْمَوْتِ حَدًّا فِي الزِّنَا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْحَدُّ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ سُقُوطَ عَدَدِ الْبَيِّنَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ حُرِّمَ عِنْدَ جَوَازِ التَّبَنِّي، لِأَنَّ سَلَمَةَ وَأَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّيَا سَالِمًا، وَكَانَ التَّبَنِّي مُبَاحًا، وَكَانَا يَرَيَانِ سَالِمًا وَلَدًا فَلَمَّا حُرِّمَ التَّبَنِّي، وَنَزَلَ الْحِجَابُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالرَّضَاعِ عَنْ تَبَنِّيهِ الْمُبَاحِ لِيَعُودَ بِهِ إِلَى التَّبَنِّي الْأَوَّلِ فَلَمَّا نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عند الله فإن لم تعلموا آبائهم فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: ٥] سَقَطَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا تَعَلَّقَ بِسَبَبٍ ثَبَتَ بِوُجُودِهِ وَسَقَطَ بِعَدَمِهِ فَصَارَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ غَيْرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute