{وبما أنفقوا من أموالهم} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ٢٣٣] ، فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِهَا بِالْوِلَادَةِ فِي الْحَالِ الَّتِي تَتَشَاغَلُ بِوَلَدِهَا عَنِ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فِي حَالِ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦] ، فَلَمَّا أَوْجَبَ نَفَقَتَهَا بَعْدَ الْفُرْاقِ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا كَانَ وُجُوبُهَا قَبْلَ الْفُرْاقِ أَوْلَى، وَقَالَ تَعَالَى: فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا) [النساء: ٣] ، قَالَ الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ أَلَّا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، فَلَوْلَا وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ الْعِيَالِ تَأْثِيرٌ، فَاعْتَرَضَ عَلَى الشَّافِعِيَّ ابْنُ دَاوُدَ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: مَعْنَى عال يعول أي جاز يجوز، فَأَمَّا كَثْرَةُ الْعِيَالِ فَيُقَالُ فِيهِ أَعَالَ يُعِيلُ فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ هَذَا التَّأْوِيلِ جَهْلًا بِمَعْنَى اللُّغَةِ وَغَفْلَةً عَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: ٣] وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَأْوِيلَ الشَّافِعِيِّ أَصَحُّ لِشَاهِدَيِ وشرح وَلُغَةٍ.
فَأَمَّا الشَّرْحُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا يَكْثُرَ مَنْ تَعُولُونَ، فَكَانَ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَفْظًا مَتْلُوًّا حَكَاهُ التَّاجِيُّ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ اخْتَرْتُ مِنْ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ.
وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ حَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ سَلَمَةَ عَنِ الْفَرَّاءِ عَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ: عَالَ يَعُولُ، مَعْنَاهُ كَثُرَ عِيَالُهُ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمِنْهُ أُخِذَ عَوْلُ الْفَرَائِضِ لِكَثْرَةِ سِهَامِهَا، فَهَذَا جَوَابٌ، وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْمُشْتَرِكَةِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ يُقَالُ عَالَ يَعُولُ. بِمَعْنَى جَارَ يَجُورُ. وَبِمَعْنَى مَانَ يَمُونُ. وَبِمَعْنَى أَكْثَرَ الْعِيَالَ. فَهُوَ بِكَثْرَتِهِمْ. فَتَنَاوَلَهُ الشَّافِعِيُّ بِأَحَدِ مَعَانِيهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَطَائِفَهٌ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي اللُّغَةِ مَا ذَكَرُوهُ، وَمَجَازَهُ فِيهَا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَجَازِهِ دُونَ حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْجَوْرِ قَدِ اسْتُفِيدَتْ بِقَوْلِهِ تعالى: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} وحمله على كثرة العيال مستفاداً بمجاز قوله تعالى: {ذلك أدنى أن لا تعدلوا} لِيَكُونَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى أَحَدِهِمَا:
وَالثَّانِي: أَنَّ كَثْرَةَ الْعِيَالِ يَؤُولُ إِلَى الْجَوْرِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوْرِ، لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: ٣٦] ، وَلَمْ يَعْصِرْ إِلَّا عِنَبًا فسماه خمراً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute