قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَمْسَكَ رَجُلًا حَتَّى قَتَلَهُ آخَرُ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ، فَأَمَّا الْمُمْسِكُ فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ إِمْسَاكٍ، أَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمُمْسِكِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا بِالْإِمْسَاكِ، وَكَانَ الْمَقْتُولُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرَبِ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُمْسِكِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، وَيُعَزَّرُ أَدَبًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِحَبْسِ الْمُمْسِكِ حَتَّى يَمُوتَ، لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الْمَقْتُولَ حَتَّى مَاتَ، فَوَجَبَ أَنْ يُجَازَى بِمِثْلِهِ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَمُوتَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ قَوَدًا كَمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ إِلَّا أَنْ يُمْسِكَ مَازِحًا مُلَاعِبًا فَلَا يُقَادُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ الله تعالى {فقد جعلنا لوليه سلطانا} [الإسراء: ٣٣] .
وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ جَمَاعَةً بِوَاحِدٍ.
وَقَالَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ أَيْ لَوْ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ.
وَالْمُمْسِكُ قَدْ عَاوَنَ عَلَى الْقَتْلِ وَلِأَنَّهُمَا تَعَاوَنَا فِي قَتْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَوَدِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي قَتْلِهِ، وَلِأَنَّ مُمْسِكَ الصَّيْدِ لَمَّا جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَاتِلِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، وَلَوْ أَمْسَكَهُ أَحَدُ الْمُجْرِمَيْنِ، وَقَتَلَهُ الْآخَرُ اشْتَرَكَا فِي الْجَزَاءِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكُ الْمَقْتُولِ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْقَاتِلِ فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ، وَيَكُونَا فِيهِ سَوَاءً، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لِلْقَتْلِ كَالشُّهُودِ إِذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعُوا قُتِلُوا قَوَدًا بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا كَذَلِكَ الْمُمْسِكُ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " يُقْتَلُ الْقَاتِلُ، وَيُصْبَرُ الصَّابِرُ ".
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَعْنِي يُحْبَسُ لِأَنَّ الْمَصْبُورَ هُوَ الْمَحْبُوسُ، يُرِيدُ بِالْحَبْسِ التَّأْدِيبَ لَا كَمَا تَأَوَّلَهُ رَبِيعَةُ عَلَى الْحَبْسِ إِلَى الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ سَبَبٌ، وَالْقَتْلَ مُبَاشَرَةٌ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَلَمْ يَكُنْ فِي السَّبَبِ إِلْجَاءٌ كَالشُّهُودِ سَقَطَ حُكْمُ السَّبَبِ بِوُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ، كَمَا لَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فَدَفَعَ رَجُلٌ فِيهَا إِنْسَانًا فَمَاتَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَاتِلَ قَدْ يَصِلُ إِلَى الْقَتْلِ تَارَةً بِالْإِمْسَاكِ وَتَارَةً بِالْحَبْسِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْحَبْسِ لَمْ يُقْتَلِ الْحَابِسُ، كَذَلِكَ إِذَا قَتَلَهُ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ لَمْ يُقْتَلِ الْمُمْسِكُ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُمْسِكِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْمُبَاشِرِ فِي الزِّنَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ امْرَأَةً حَتَّى زَنَا بِهَا رَجُلٌ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute