للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَعْفُ أَنْ يقتص ولو كان واحد مِنْ جَمَاعَةٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سلطانا} فَلَوْ سَقَطَ حَقُّهُ بِعَفْوِ غَيْرِهِ لَكَانَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، كَذَلِكَ الْقَوَدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَثَابَتِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَفْوُ بَعْضِهِمْ عَنِ الدِّيَةِ مُؤَثِّرًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَفْوُهُ عَنِ الْقَوَدِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إليه بإحسان} وَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، لِأَنَّهُ جَاءَ بِذِكْرِ الشَّيْءِ مُنْكِرًا، وَجَعَلَ عَفْوَهُ مُوجِبًا لِاتِّبَاعِ الدِّيَةِ بِمَعْرُوفٍ، وَأَنْ تُؤَدَّى إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ وَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِ الْعَفْوِّ مِنَ الوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فمن قتل بعده قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الْعَقْلَ " فَجَعَلَ الْخِيَارَ فِي الْقَوَدِ لِجَمِيعِ أَهْلِهِ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَطَالَبَ أَوْلِيَاؤُهُ بِالْقَوَدِ فَقَالَتْ أُخْتُ الْمَقْتُولِ وَهِيَ زَوْجَةُ الْقَاتِلِ: عَفَوْتُ عَنْ حَقِّي مِنَ القَوَدِ فَقَالَ عُمَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، عُتِقَ الرَّجُلُ يَعْنِي مِنَ القَوَدِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ مَعَ انْتِشَارِهِ فِيهِمْ، فَثَبَتَ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَلِأَنَّ الْقَوَدَ أَحَدُ بَدَلَيِ النَّفْسِ فَلَمْ يَكُنْ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِهِ كَالدِّيَةِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ قَدْ مَلَكَ بِالْعَفْوِ بَعْضَ نَفْسِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَسْتَوِيَ فِي الْبَاقِي مِنْهَا كَالْعِتْقِ، وَلِأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ إِيجَابُ الْقَوَدِ وَإِسْقَاطُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ حُكْمُ الْإِسْقَاطِ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الشُّبَهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ لِسُقُوطِ مَا وَجَبَ مِنْهُ بَدَلًا وَهُوَ الدِّيَةُ، وَلَيْسَ لِلْإِيجَابِ مَا سَقَطَ مِنْهُ بَدَلٌ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَقَدْ مَضَى.

وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُمْ فِي الْقَوَدِ مُشْتَرِكُونَ وَفِي الْحَدِّ مُنْفَرِدُونَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمْ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، وإنما اشتركوا جميعها فِي الْقَوَدِ وَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْحَدِّ لأمرين:

<<  <  ج: ص:  >  >>