قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا تَوَالَتْ جِنَايَتَانِ فَأَزَالَتِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مَحَلَّ الْأُولَى، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ، ويقطع الثاني بقيتهما مِنَ الكَتِفِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوْ يَقْطَعَ أَحَدُهُمَا أصْبعهُ وَيَقْطَعَ الثَّانِي بَقِيَّةَ كَفِّهِ، أَوْ يَكُونَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي قَطْعِ الْقَدَمِ وَالسَّاقِ، ثُمَّ يَمُوتُ الْمَقْطُوعُ وَدَمُهُ سَائِلٌ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا قَاتِلَانِ وَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ وَفِي النَّفْسِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْأَوَّلُ قَاطِعٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ دُونَ النَّفْسِ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ السِّرَايَةَ تَحْدُثُ عَنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَإِذَا زَالَ مَحَلُّهَا زَالَتْ سِرَايَتُهَا لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ سِرَايَةَ الْأَكَلَةِ تَزُولُ بِقَطْعِ مَحَلِّهَا، فَصَارَ انْقِطَاعُهَا كَالِانْدِمَالِ، وَصَارَ الثَّانِي كَالْمُنْفَرِدِ، أَوِ الْمُوجِئِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاتِلَ دُونَ الْأَوَّلِ.
وَدَلِيلُنَا هُوَ أَنَّ الْمَوْتَ بِالسِّرَايَةِ حَادِثٌ عَنْ أَلَمِهَا، وَأَلَمُ الْقَطْعِ الْأَوَّلِ قَدْ سَرَى فِي الْحَالِ إِلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ قَبْلَ الْقَطْعِ الثَّانِي، فَانْتَقَلَ مَحَلُّهُ إِلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ فَإِذَا حَدَثَ الْقَطْعُ الثَّانِي أَحْدَثَ أَلَمًا ثَانِيًا زَادَ عَلَى الْأَلَمِ الْأَوَّلِ، فَصَارَ الْمَوْتُ حَادِثًا عَنْهُمَا لَا عَنِ الثَّانِي مِنْهُمَا، كَمَنْ سَجَّرَ تَنُّورًا بِنَارٍ حَمِيَ بِهَا ثُمَّ أَخْرَجَ سَجَارَهُ وَسَجَرَهُ بِأُخْرَى تَكَامَلَ حِمَاهُ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ تَكَامُلُ الْحَمى مَنْسُوبًا إِلَى السَّجَارِ الثَّانِي، وَإِنْ زَالَ السَّجَارُ الْأَوَّلُ، بَلْ كَانَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِمَا، كَذَلِكَ تَكَامُلُ الْأَلَمِ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَكُنْ بِالْقَطْعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، بَلْ كَانَ بِالثَّانِي وَالْأَوَّلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَزِيَادَةُ الْأَلَمِ الْأَوَّلِ مُنْقَطِعَةٌ وَزِيَادَةُ الْأَلَمِ الثَّانِي مُسْتَدِيمَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَلَمِ الثَّانِي لِاتِّصَالِ مَادَّتِهِ دُونَ الْأَلَمِ الْأَوَّلِ لِانْقِطَاعِ مَادَّتِهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْأَلَمِ الثَّانِي وَقِلَّةَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ مَانِعًا مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقَتْلِ، كَمَا لَوْ جَرَحَاهُ فَكَانَتْ جِرَاحَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ أَلَمًا كَانَا سَوَاءً فِي قَتْلِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ انْقِطَاعَ أَسْبَابِ الْأَلَمِ لَا يَمْنَعُ مِنْ مُسَاوَاةِ مَا بَقِيَتْ أَسْبَابُهُ فِي إِضَافَةِ الْقَتْلِ إِلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ ضَرَبَهُ أَحَدُهُمَا بِخَشَبَةٍ وَجَرَحَهُ الْآخَرُ بِسَيْفٍ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي قَتْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَثَرُ الْخَشَبَةِ مُرْتَفِعًا وَأَثَرُ السَّيْفِ بَاقِيًا، وَفِي هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ دَلِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَانْفِصَالٌ عَنِ الِاعْتِرَاضِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَطْعِ الْأَكَلَةِ لِانْقِطَاعِ سِرَايَتِهَا فَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الزِّيَادَةِ دُونَ الْإِزَالَةِ، وَأَنْ لَا يَسْرِيَ إِلَى مَا جَاوَزَهُ، وَأَمَّا الِانْدِمَالُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْأَلَمِ، وَالْقَطْعُ لَا يُزِيلُ الْأَلَمَ وَإِنَّمَا يَقْطَعُ زِيَادَتَهُ فافترقا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute