قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: دِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ تَجِبُ عَلَى الْجَانِي حَالَّةً.
وَالثَّانِي: دِيَةُ الْعَمْدِ الْخَطَأِ وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَتَسَاوَى الدِّيَتَانِ فِي التَّغْلِيظِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي التَّأْجِيلِ وَالتَّحَمُّلِ، فَتَكُونُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي، وَفِي عَمْدِ الْخَطَأ مُؤَجَّلَةً عَلَى عَاقِلَتِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَمْدُ الْخَطَأِ أَخَفَّ مِنَ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَقَدْ سَاوَاهُ فِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ لِعَمْدِهِ فِي الْفِعْلِ خَالَفَهُ فِي التَّأْجِيلِ وَالْمَحَلِّ لِخَطَئِهِ فِي الْقَصْدِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: دِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَهِيَ مُخَفَّفَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ صِفَةِ التَّخْفِيفِ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثَةِ سِنِينَ وَلَا تَتَغَلَّظُ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْخَطَأِ فِي الْحَرَمِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَتَكُونُ مُغَلَّظَةً فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ كَمَا تَتَغَلَّظُ دِيَةُ الْعَمْدِ الْمَحْضِ وَدِيَةُ الْعَمْدِ الْخَطَأِ، فَيَصِيرُ تَغْلِيظُ الدِّيَةِ فِي خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ، وَفِي الْعَمْدِ الْخَطَأِ، وَفِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ، وَفِي الْحَرَمِ، وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَتَغَلَّظُ دِيَةُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ بِالْحَرَمِ وَلَا بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَلَا عَلَى ذِي الرَّحِمِ.
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالنَّخَعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ " وَلَمْ يُفَرِّقْ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ لَمْ يَتَغَلَّظْ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ أَخَفُّ مِنْ قَتْلِ الْعَمْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَرَمِ وَالرَّحِمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ زِيَادَةُ تَأْثِيرٍ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا زِيَادَةُ تأثير في قَتْلِ الْخَطَأِ، وَلِأَنَّ لِحَرَمِ الْمَدِينَةِ حُرْمَةً كَمَا لِحَرَمِ مَكَّةَ حُرْمَةٌ، وَلِشَهْرِ رَمَضَانَ حُرْمَةٌ كَمَا لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ حُرْمَةٌ، وَلِشَرَفِ النَّسَبِ حُرْمَةٌ كَمَا للرحم حرمة، ثم لم يتغلظ الدِّيَةُ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ وَحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحُرْمَةِ شَرَفِ النَّسَبِ كَذَلِكَ لَا تَتَغَلَّظُ بِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَحُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَحُرْمَةِ الرَّحِمِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ كَالزِّنَا لِوُجُوبِ الْقَتْلِ بِهِ تَارَةً وَمَا دُونَهُ أُخْرَى، فَلَمَّا لَمْ يَتَغَلَّظْ حُكْمُ الزِّنَا بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالرَّحِمِ لَمْ يَتَغَلَّظْ حُكْمُ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَغَلَّظَ حُكْمُ الْقَتْلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ لَوَجَبَ إِذَا جَمَعَهَا أَنْ يُضَاعِفَ التغليظ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute