للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلُهُ: " الْقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ ": يَعْنِي قَوَدًا وَقِصَاصًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَاتِلِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: " الْقَاتِلُ غَيْرُ قَاتِلِهِ " وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ مُنْتَشِرَةٌ عَنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ فِي الْكَعْبَةِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ فِيمَا انْتَشَرَتْ حُرْمَتُهَا إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْآدَمِيِّينَ أَغْلَظُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّيْدِ، فَلَمَّا حُرِّمَ قَتْلُ الصيد إذا ألجأ إِلَى الْحَرَمِ كَانَ قَتْلُ الْآدَمِيِّ أَشَدَّ تَحْرِيمًا.

وَدَلِيلُنَا عُمُومُ الظَّوَاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْقِصَاصِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا تَخْصِيصُ الْحِلِّ مِنَ الْحَرَمِ، وَلِأَنَّ كُلَّ قِصَاصٍ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الْحِلِّ جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي الْحَرَمِ كَالْقَاتِلِ فِي الْحَرَمِ وَلِأَنَّ كُلَّ قِصَاصٍ اسْتُوفِيَ مِنْ جَانِبِهِ فِي الْحَرَمِ اسْتُوفِيَ مِنْهُ إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ كَالْأَطْرَافِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَافَقَ عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَحَلًّا لِلْقِصَاصِ إِذَا جَنَى فِيهِ كَانَ مَحَلًّا لَهُ وَإِنْ جَنَى فِي غَيْرِهِ كَالْحِلِّ، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَارِدٌ بتحريم الهجرة وَإِبَاحَةِ الْبَيْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ " فَأَمَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَجْرِهِ وَهُوَ مَحْظُورٌ، وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ وَهُوَ مُبَاحٌ، وَأَخَّرَ الِاقْتِصَاصَ مِنْهُ وَهُوَ وَاجِبٌ، فَصَارَ فِي الْكُلِّ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: ٩٦] فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران: ٩٦] .

فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ، لِأَنَّهُ قَالَ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: ٩٦] وَمَقَامُهُ خَارِجَ الْبَيْتِ لَا فِيهِ فَعَنْهُ جَوَابَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ حَجَرٌ مَنْقُولٌ لَا يَسْتَقِرُّ مَكَانَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ وَضْعِ الْحَجَرِ فِي الْبَيْتِ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ.

وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: ٦٧] فَهُوَ دَلِيلُنَا لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْنِ أَنْ لَا يُؤَخَّرَ فِيهِ الْحُقُوقُ وَيُعَجَّلَ اسْتِيفَاؤُهَا لِأَهْلِهَا، وَإِذَا أُخِّرَتْ صَارَتْ مُضَاعَةً فَخَرَجَ الْحَرَمُ عَنْ أَنْ يَكُونَ آمِنًا.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ وَقَوْلِهِ " الْقَاتِلُ فِي الْحَرَمِ " فَمَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ دُونَ الْقِصَاصِ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِقَتْلِ الْقِصَاصِ أَسْمَاءً هُوَ أَخَصُّ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ وَلَيْسَ الْمُقْتَصُّ مِنْ أَعْتَى النَّاسِ، لِأَنَّهُ مستوف

<<  <  ج: ص:  >  >>