ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً ثَالِثَةً هِيَ لِلْوَلَدِ ثَانِيَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون: ١٤] وَالْعَلَقَةُ هِيَ الدَّمُ الطَّرِيُّ الَّذِي انْتَقَلَتِ النُّطْفَةُ إِلَيْهِ حَتَّى صَارَتْ عَلَقَةً، وَسُمِّيَتْ عَلَقَةً لِأَنَّهَا أَوَّلُ أَحْوَالِ الْعُلُوقِ، وَالْعَلَقَةُ فِي حُكْمِ النُّطْفَةِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهَا حُرْمَةٌ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا غُرَّةٌ، وَلَا تَصِيرُ بِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً رَابِعَةً هِيَ لِلْوَلَدِ ثَالِثَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون: ١٤] وَالْمُضْغَةُ اللَّحْمُ، وَهُوَ أَوَّلُ أَحْوَالِ الْجِسْمِ، سُمِّيَتْ مُضْغَةً، لِأَنَّهَا بِقَدْرِ مَا يُمْضَغُ مِنَ اللَّحْمِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ الْخِلَافُ فَأَوْجَبَ فِيهِ مَالِكٌ غُرَّةً، وَأَوْجَبَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ حُكُومَةً، وَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ الشَّافِعِيُّ شَيْئًا وَلَا تَصِيرُ بِهِ عَلَى قَوْلِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَفِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ.
وَالثَّانِي: لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً خَامِسَةً وَهِيَ لِلْوَلَدِ رَابِعَةٌ قَالَ تَعَالَى: {فخلقنا المضعة عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون: ١٤] فَاحْتَمَلَ خَلْقُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ خَلَقَ عَظْمًا كَسَاهُ لَحْمًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي حَالَتَيْنِ خَلَقَ فِي إِحْدَاهُمَا عَظْمًا ثُمَّ كَسَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْعَظْمِ لَحْمًا فَيَكُونُ اللَّحْمُ حَالَةً سَادِسَةً هِيَ لِلْوَلَدِ خَامِسَةٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً سَابِعَةً هِيَ لِلْوَلَدِ سَادِسَةٌ فَقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: ١٤] وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَمَيّز ذَكَر أَوْ أُنْثَى قَالَهُ الْحَسَنُ، وَمَحْصُولُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُضْغَةٍ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
فَأَمَّا الْمُضْغَةُ وَمَا قَبْلَهَا فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَقُلْنَا، إِنَّ مَا قَبْلَ الْمُضْغَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِنَّ الْمُضْغَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مَا سِوَى الْغُرَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ قَوْلَانِ:
وَأَمَّا مَا بَعْدَ الْمُضْغَةِ فَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَمَا وَجَبَتْ فِيهِ الْغُرَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَارَتْ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَالْغُرَّةُ فِيهِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ بَعْدَ الْمُضْغَةِ وَلَهُ بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَبِينَ فِيهِ صُورَةٌ وَلَا تَخْطِيطُ الصُّوَرِ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ.