وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ فَيَعْتَقِدُ السُّلْطَانُ الْآمِرُ وُجُوبَهُ، لِمَا أداه اجتهاده إليه، ويعتقد المأمور سقوطه لما يَعْتَقِدُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَكِنْ يُعَزَّرُ الْمَأْمُورُ لِإِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلٍ يَعْتَقِدُ حَظْرَهُ، وَإِنْ سَقَطَ الْقَوَدُ بِاجْتِهَادِهِ كَالْآمِرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مَحْظُورًا وَدَمُ المقتول محقونا والمأمور عالم بِظُلْمِهِ إِنْ قَتَلَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْآمِرِ إِكْرَاهٌ لِلْمَأْمُورِ، فَالْقَوَدُ وَاجِبٌ عَلَى الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ لِمُبَاشَرَتِهِ لِقَتْلِ مَظْلُومٍ بِاخْتِيَارِهِ وَيُعَزَّرُ الْآمِرُ تَعْزِيرَ مِثْلِهِ لِأَمْرِهِ بِقَتْلٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِمَنْعِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْآمِرِ إِكْرَاهٌ لِلْمَأْمُورِ صَارَ بِهِ الْآمِرُ قَاهِرًا وَالْمَأْمُورُ مَقْهُورًا فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ الْقَاهِرِ وَاجِبٌ، وَلَا تَمْنَعُ وِلَايَتُهُ مِنِ اسْتِحْقَاقِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ مِنْ إِعْفَاءِ الْوُلَاةِ من القصاص، لأن لا يَنْتَشِرَ بِالِاقْتِصَاصِ مِنْهُمْ فَسَادٌ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْحُقُوقَ يَسْتَوِي فِيهَا الشَّرِيفُ وَالْمَشْرُوفُ، وَالْوَالِي وَالْمَعْزُولُ، وَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْقِصَاصَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِعْطَاءِ الْحَقِّ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَلَّى أَخْذَ الْحُقُوقِ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: ٤٤] وَيَكُونُ الْقَهْرُ مِنْ هَذَا الْآمِرِ فِسْقًا وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِهِ عَنْ إِمَامَتِهِ أَمْ لَا؟ على وجهين:
أحدهما: ينعزل لأن العدالة شرطا فِي عَقْدِ إِمَامَتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَنْعَزِلُ بِهِ حَتَّى يَعْزِلَهُ أَهْلُ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، إِنْ أقام على حاله وهم يَتُبْ عِنْدَ اسْتِتَابَتِهِ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ انْعَقَدَتْ بِهِمْ فَلَمْ يَنْعَزِلْ عَنْهَا إِلَّا بِهِمْ، فَأَمَّا الْمَأْمُورُ الْمَقْهُورُ فَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ - قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إِحْيَاءَ نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا قَوَدَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عِلَّتِهِ، فَذَهَبَ الْبَغْدَادِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ أن الإكراه شبهة يدرأ به الْحُدُودُ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُهَا، لِأَنَّهُ أَحَدُ قَاتِلَيْنِ، لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ وَلَا تُدْفَعُ بِهَا الْحُقُوقُ، وَذَهَبَ الْبَصْرِيُّونَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي سُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْهُ، أَنَّ الْإِكْرَاهَ إِلْجَاءٌ وَضَرُورَةٌ يَنْقِلُ حُكْمَ الْفِعْلِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ إِلَى الَأَمْرِ فَعَلَى هَذَا لَا قَوَدَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute