للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قِتَالِهِمْ يَمْنَعُ مِنْ ضَمَانِ مَا تَلِفَ بِالْقِتَالِ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِتَنَافِي اجْتِمَاعِ وُجُوبِ الْقِتَالِ وَوُجُوبِ الضَّمَانِ.

وَالثَّانِي: إِنَّ مَقْصُودَ الْقِتَالِ دَفْعُهُمْ عَنْ بَغْيِهِمْ، فَصَارُوا فِي هَدَرِهَا كَالطَّالِبِ إِذَا قَتَلَهُ الْمَطْلُوبُ دَفَعًا عَنْ نَفْسِهِ.

وَهَلْ يَضْمَنُ أَهْلُ الْبَغْيِ لِأَهْلِ الْعَدْلِ مَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: إِنَّهُمْ يَضْمَنُونَهُ لَهُمْ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِنّهُمْ لَمَّا ضَمِنُوهُ إِذَا لَمْ يَمْتَنِعُوا ضَمِنُوهُ وَإِنِ امْتَنَعُوا كَأَهْلِ الْحِرَابَةِ.

وَالثَّانِي: إِنّهُ لَمَّا كَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ كَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مَضْمُونًا كَالْجِنَايَاتِ، كَمَا أَنَّ الْقِتَالَ لَمَّا وَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ كَالْحُدُودِ، لِفَرْقِ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات: ٩] .

فَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَبِعَةً فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْهُمْ.

وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - قَالَ لِمَنْ تَابَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ: تدون قتلانا ولا ندري قَتْلَاكُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا نَأْخُذُ لِقَتْلَانَا دية، لأنهم عملوا الله وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَسَكَتَ أَبُو بَكْرٍ سُكُوتَ رَاجِعٍ إِلَى قَوْلِهِ.

وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ طُلَيْحَةَ قَتَلَ ثَابِتَ بْنَ أَقْرَمَ وَعُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ، وَهَرَبَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَبِلَ تَوْبَتَهُ وَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ.

وَهَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَوْمَ الْجَمَلِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدًا بِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ وَالتَّالِفِ وَالْمَتْلُوفِ.

وَهَكَذَا حَكَى ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيُّ فَدَلَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ.

وَلِأَنَّهُمَا طَائِفَتَانِ مُمْتَنِعَتَانِ اقْتَتَلَتَا تَدَيُّنًا، فَلَمْ يَضْمَنْ بَعْضُهُمْ بعضاً كالمسلمين.

<<  <  ج: ص:  >  >>