أَحَدُهَا: لَا يَلْزَمُ، وَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِي الْتِزَامِ حُكْمِهِ كَأَهْلِ العهد؛ لعموم قول الله تعالى: {فإن جاؤوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: ٤٢] وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ وَسَوَاءٌ كان هذا في حقوق الله أَوْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَعَلَى هَذَا إِنِ اسْتَعْدَوُا الْحَاكِمَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُعْدِيَ المستعدي وبين أن لا يعديه، وإذا أَعْدَاهُ كَانَ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْحُضُورِ وَالِامْتِنَاعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذمة أن يجري عَلَيْهِمْ أَحْكَامَنَا فَيَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يُعْدِيَهُمْ وَيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، وَيُلْزِمَهُمُ الْحُضُورَ إِلَيْهِ وَالْتِزَامَ حُكْمِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا بِالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِ تَوَجَّهَ لُزُومُ الْحُكْمِ إِلَيْهِمْ دُونَهُ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ حَكَمَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْتِزَامُ حُكْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أنه لا يَلْزَمُ الْحَاكِمُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَيُعْدِيَ الْمُسْتَعْدِي منهم ويخير الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ عَلَى الْحُضُورِ، وَيُلْزِمَهُ الْحُكْمَ جَبْرًا، سَوَاءٌ كَانَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ في حقوق الأدميين؛ لقول الله تعالى: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: ٢٩] .
وقال الشافعي: والصغار أن يجري عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الصَّغَارَ هُوَ الْإِذْعَانُ بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا، وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُمْ أَحْكَامُهُ لَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تُوجِبُ حِفْظَ الْحُقُوقِ وَتَمْنَعُ مِنَ التَّظَالُمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْحُدُودِ مَحْظُورًا عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالزِّنَا أَقَمْنَا الْحَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عِنْدَنَا مُبَاحًا عِنْدَهُمْ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لَمْ نَحُدَّهُمْ لِإِقْرَارِنَا لَهُمْ عَلَى اسْتِبَاحَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أن يَلْزَمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا يَلْزَمَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حُقُوقِ الله تعالى لأن حقوق اللَّهِ فِي كُفْرِهِمْ أَعْظَمُ وَقَدْ أُقِرُّوا عَلَيْهِ وَحُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ مَحْفُوظَةٌ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ كَمَا يَلْزَمُنَا حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ لَزِمَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمِ قَوْلًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ مُسْتَعْدِيًا أَوْ مُسْتَعْدًى عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى) وَإِنْ كَانَ التَّحَاكُمُ بَيْنَ ذِمِّيِّينَ مِنْ مِلَّتَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute