وَيُسْتَبْقَى، وَلِأَنَّ الْكَفَنَ لَا مَالِكَ لَهُ وَمَا لَا مَالِكَ لَهُ لَا قَطْعَ فِيهِ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ بِهِ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كُفِّنَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ لَمْ يُقْطَعْ فِي الزِّيَادَةِ كَذَلِكَ فِيمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلِأَنَّ قَبْرَ الْمَيِّتِ يَشْتَمِلُ عَلَى كَفَنِهِ وَطِيبِهِ ثُمَّ لَمْ يُقْطَعْ فِي طِيبِهِ فَكَذَلِكَ فِي كَفَنِهِ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ فِي النَّبَّاشِ وَغَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّبَّاشُ لَيْسَ بِسَارِقٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِاسْمِ النَّبَّاشِ دُونَ السَّارِقِ.
قِيلَ: عنه جوابان:
أحدهما: أن السارق هو المستسر بِأَخْذِ الشَّيْءِ مِنْ حِرْزِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: ١٨] وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي النَّبَّاشِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَارِقًا.
وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَارِقُ مَوْتَانَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: يُقْطَعُ سارق أحيائنا وسارق موتانا، فسمياه سَارِقًا وَقَوْلُهُمَا حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: ٢٥] أَيْ نَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَنَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا، فَجَعَلَ بَطْنَهَا حِرْزًا لِلْمَيِّتِ كَمَا جَعَلَ ظَهْرَهَا حِرْزًا لِلْحَيِّ فَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ.
وَرَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ بِقَطْعِ الْمُخْتَفِي، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ،
وَأَهْلُ الْحِجَازِ: يُسَمُّونَ النَّبَّاشَ الْمُخْتَفِي وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِاخْتِفَائِهِ بِأَخْذِ الْكَفَنِ.
وَالثَّانِي: لِإِظْهَارِهِ الْمَيِّتَ فِي أَخْذِ كَفَنِهِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُظْهِرُ الْمُخْتَفِي، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَطَعَ نَبَّاشًا بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ مَجْمَعُ الحجيج، ولا يخفي ما يجري فِيهِ عَلَى عُلَمَاءِ الْعَصْرِ فَمَا أَنْكَرَهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا عَوْرَةٌ يَجِبُ سَتْرُهَا فَجَازَ أَنْ يَجِبَ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا سِتْرُهَا كَالْحَيِّ.
وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْحَيِّ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِسَرِقَةِ كَفَنِ الْمَيِّتِ كَالضَّمَانِ.
وَلِأَنَّ قَطْعَ السَّرِقَةِ مَوْضُوعٌ لِحِفْظِ مَا وَجَبَ اسْتِبْقَاؤُهُ عَلَى أَرْبَابِهِ حَتَّى يَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ أَخْذِهِ فَكَانَ كَفَنُ الْمَيِّتِ بِالْقَطْعِ أَحَقَّ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ على نفسه.