وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَقْطَعُهُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ وَيُحْبَسُ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَبِهِ قَالَ الثوري وأحمد بن حنبل؛ استدلالاً بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] والإضافة إلى الاثنين بلفظ الجمع تقتضي واحداً من الاثنين كما قال تعالى: {وإن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤] فكان المراد قلباً من كل واحدة.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لا أدع له يداً يأكل بها ورجلاً يمشي عليها، وأن كُلَّ عُضْوٍ لَا يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ يُقْطَعْ فِي السَّرِقَةِ بِحَالٍ كَالِّلسَانِ وَالْأَنْفِ، وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْيُسْرَى اسْتِيفَاءَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فوجب أن لا تقطع فِي السَّرِقَةِ كَالسَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِأَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى أقرب إلى الْيُمْنَى مِنَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَالسَّرِقَةُ الثَّانِيَةُ أَقْرَبُ إلى الأولة مِنَ الثَّالِثَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ قَطْعُهَا فِي الثَّانِيَةِ مَعَ قُرْبِهَا مِنَ الْيُمْنَى وَقُرْبِهَا مِنَ السرقة الأولى كان أولى أن لا تقطع في الثالثة؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ ضَعُفَتْ، وَإِذَا تَقَدَّمَتْ غَلُظَتْ.
وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨] فَاقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ أَنْ تُقْطَعَ الْيَدَيْنِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْجَمْعِ مِنَ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤] دَلِيلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ إِلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ تَرَكَ الظَّاهِرَ، وَهَذَا انْفِصَالٌ، ويدل عليه حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ) وَهَذَا نَصٌّ.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ وَقَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، فَإِنْ قِيلَ: فَفِيهِ الْقَتْلُ فِي الْخَامِسَةِ وَهُوَ مَنْسُوخٌ فَلَمْ يَصِحَّ الاجتماع بِهِ قِيلَ: نَسْخُ بَعْضِ الْحَدِيثِ لَا يَقْتَضِي نسخ باقيه.
وروى أيوب عن نافع أَنَّ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute