قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إلا الذين تابوا من قبل أن يقدروا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٣٤] فَعَطَفَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُدُودِ الْمُحَارَبَةِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ التَّوْبَةِ، فَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ وَرَدَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا تُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ حَدًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُدُودَ الْحِرَابَةِ وَرَدَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ إلى أنها التوبة من قصاص الْحُدُودِ، وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا فِي أَمَانِ الْإِمَامِ لَهُمْ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالشَّعْبِيِّ وَطَائِفَةٍ أَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ شَرْطٌ فِيهَا، وَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنْهُ الْإِمَامُ لَمْ تُسْقِطِ التَّوْبَةُ عَنْهُ حَدًّا، وَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ أَمَانَ الْإِمَامِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِتَأْثِيرِهَا فِي الحدود أن يكون قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَاخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِهَذَا من صِفَةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ لُحُوقِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَوْدِهِمْ مِنْهَا تَائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُلْحَقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ تُؤَثِّرِ التَّوْبَةُ فِي إِسْقَاطِ الْحُدُودِ عَنْهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِئَةٌ يَلْجَأُونَ إِلَيْهَا وَيَمْتَنِعُونَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعُوا بِفِئَةٍ لَمْ تُؤَثِّرْ تَوْبَتُهُمْ فِي سُقُوطِ الْحُدُودِ عَنْهُمْ، وهذا قول عبد الله بن عمر، وعمرو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ والحكم بن عيينة.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ لَا تَمْتَدَّ إِلَيْهِمْ يَدُ الْإِمَامِ بِهَرَبٍ أَوِ اسْتِخْفَاءٍ أَوِ امْتِنَاعٍ، فَيَخْرُجُوا عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَتُؤَثِّرُ توبتهم فيما سقط عَنْهُمْ، وَمَنِ امْتَدَّتْ إِلَيْهِ يَدُ الْإِمَامِ فَهُوَ تحت القدرة عليه، واختلف من قال هذا فِي رَفْعِهِ إِلَى الْإِمَامِ، هَلْ يَكُونُ شَرْطًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهُ فِي الْحَالَيْنِ قَادِرٌ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ شَرْطًا فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ فِي سَارِقِ رِدَاءِ صَفْوَانَ: " هَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ، لَا عَفَا اللَّهُ عَنِّي إن عفوت) واختلفوا فيما يسقط التَّوْبَةُ عَنْهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أحدها: وهو قول علي عليه السلام أنها تسقط عنهم جميع الحقوق لله عز وجل وَلِلْآدَمِيِّينَ مِنَ الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، رُوِيَ أَنَّ حارثة بن زيد خَرَجَ مُحَارِبًا فَأَخَافَ السَّبِيلَ، وَسَفَكَ الدِّمَاءَ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ، وَجَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَقَبِلَ علي عليه