ومن الاعتبار أنه حد يجب على الحر، فلم يتقدر بالأربعين كالقذف ولأن حَدَّ الْقَذْفِ أَخَفُّ، وَحَدَّ الشُّرْبِ أَغْلَظُ لِمَا في النفوس من الداعي إِلَيْهِ، وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ عَلَيْهِ، فَكَانَ إِنْ لَمْ يزد عليه فأولى أن لا ينقص عنه، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَوْ كَانَتْ تَعْزِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ، لَأَنَّ التَّعْزِيرَ لا يجوز أن يكون مساوياً للحد.
وَدَلِيلُنَا مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَزْهَرَ مَا رَوَاهُ حُصَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ الرَّقَاشِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَقَدْ أُتِيَ بِالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ حُمْرَانُ وَرَجُلٌ آخَرُ. شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَقَيَّأَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ: مَا تَقَيَّأَهَا حَتَّى شَرِبَهَا فَقَالَ لَعَلِيٍّ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ.
فقال علي للحسن: أقم عليه فقال الحسن: ولي حارها من تولى قارها أي: ولي صَعْبَهَا مَنْ تَوَلَّى سَهْلَهَا.
فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَبْدِ الله بن جعفر: أقم عليه الحد فجلده عَبْدُ اللَّهِ بِالسَّوْطِ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ: حَسْبُكَ جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَجَلَدَ عُمَرُ ثمانين: وكل سنة أَحَبُّ إِلَيَّ وَهَذَا نَصٌّ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى الْأَرْبَعِينَ.
وَالثَّانِي: إِخْبَارُهُ بِأَنَّ كِلَا الْعَدَدَيْنِ سُنَّةٌ يُعْمَلُ بِهَا وَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ فِيهَا.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعَدَدٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ، كالزنا والقذف.
فإن قيل: فوجب ألا يُقَدَّرَ بِأَرْبَعِينَ كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ، قِيلَ: الْحُدُودُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْمِقْدَارِ، لِاخْتِلَافِهَا فِي الْأَسْبَابِ، فَجَازَ لَنَا اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّفَاضُلِ، ولم يجز اعْتِبَارُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ فِي التَّمَاثُلِ.
وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأجْرَامِ، فَمَا كَانَ جُرْمُهُ أغلظ كان حده أكثر.
ولأن الزِّنَا لَمَّا غَلُظَ جُرْمُهُ لِلِاشْتِرَاكِ فِيهِ غَلُظَ حده.
والقذف لما اختص كان حده اكثر بِالتَّعَدِّي إِلَى وَاحِدٍ كَانَ أَخَفَّ مِنَ الزِّنَا.
وَالْخَمْرُ لَمَّا اخْتَصَّ بِوَاحِدٍ لَمْ يَتَعَدَّ عَنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَخَفَّ مِنَ الْقَذْفِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثَيْ أَنَسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ فَمِنْ وجهين: