وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ رَعْيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ الَّذِي سَوَّى فِيهِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَحَكَى الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ عَنْهُ سُقُوطَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ وَحَكَى الْخُرَاسَانِيُّونَ عَنْهُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الضَّمَانِ فِيهِمَا بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ) .
وَرُوِيَ " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ) .
وَالْعَجْمَاءُ: الْبَهِيمَةُ، وَالْجُبَارُ: الْهَدَرُ الَّذِي لَا يُضْمَنُ، وَلِأَنَّ مَا سَقَطَ ضَمَانُهُ نَهَارًا سَقَطَ ضَمَانُهُ لَيْلًا كَالْوَدَائِعِ طَرْدًا وَالْغُصُوبِ عَكْسًا.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الزَّمَانَيْنِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُهُ لَيْلًا وَجَبَ ضَمَانُهُ نَهَارًا، كالْغُصُوبِ طَرْدًا وَالْوَدَائِعِ عَكْسًا.
وَدَلِيلُنَا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ لَيْلًا وَسُقُوطِهِ نَهَارًا، سُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَا وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٨، ٧٩] وَفِي الْحَرْثِ الَّذِي حَكَمَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلاً قَالَهُ قَتَادَةُ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِلَفْظِ الْحَرْثِ.
وَالثَّانِي: أنه كرم وقعت فيه الْغَنَمُ، قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي النقل. {إذا نفشت فيه غنم القوم} [الأنبياء: ٧٨] والنفش رَعْيُ اللَّيْلِ وَالْهَمْلُ: رَعْيُ النَّهَارِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ فِي رَعْيِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ. {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: ٧٨] يَعْنِي: حُكْمَ دَاوُدَ وَحُكْمَ سُلَيْمَانَ، وَالَّذِي حَكَمَ به داود على ما ورد به النَّقْلُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الْغَنَمَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَرْثِ عِوَضًا عَنْ فساده وكان سليمان عليه السلام حاضر الحكمة فَقَالَ: أَرَى أَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إِلَى صَاحِبِ الْكَرْمِ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهَا وَيُدْفَعَ الْكَرْمُ إِلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ، لِيُعَمِّرَهُ، فَإِذَا عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ رَدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَاسْتَرْجَعَ غَنَمَهُ، فَصَوَّبَ الله تعالى حُكْمَ سُلَيْمَانَ وَبَيَّنَ خَطَأَ دَاوُدَ فَقَالَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: ٧٩] فَرَدَّ دَاوُدُ حُكْمَهُ، وَأَمْضَى حُكْمَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: ٧٩] يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ آتَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا وَعِلْمًا فِي وُجُوبِ ذلك الضمان لَيْلًا، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ، لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute