للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَدَا الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِيَنْتَشِرُوا فِيهَا آمِنِينَ قَالَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: ٣٦] . وَهِيَ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ وَوَاحِدٌ فَرْدٌ " وَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ في الحرم فقال تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: ٦٧] فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ فَرْضِ الْجِهَادِ تَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَتَحْرِيمَ الْقِتَالِ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥] . فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِتَالَ فِيهَا عَلَى الْعُمُومِ ابْتِدَاءً وَمُقَابَلَةً، ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُبِحْ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَقَالَ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: ١٩٤] وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. إنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنُهِيتَ يَا مُحَمَّدُ عَنْ قِتَالِنَا فِي الشَهْرِ الْحَرَامِ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بالشهر الحرام} أَيْ: إِنِ اسْتَحَلُّوا قِتَالَكُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاسْتَحِلُّوا مِنْهُمْ مِثْلَ مَا اسْتَحَلُّوا مِنْكُمْ

وَفِي قوله تعالى: {والحرمات قصاص} تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: فِي انْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ.

وَالثَّانِي: فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ حِفْظُ الْحُرُمَاتِ ثُمَّ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ وَقِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَقَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: ٢١٧] فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ حُرْمَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَمَعْصِيَةَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ مَعْصِيَةِ الْقِتَالِ، فَصَارَ لِتَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

الْأُولَى: تَحْرِيمُهُ فِيهَا لِمَنْ قَاتَلَ وَلَمْ يُقَاتِلْ.

وَالثَّانِيَةُ: إنَّهُ أُبِيحَ فِيهَا قِتَالُ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ.

وَالثَّالِثَةُ: إنَّهُ أُبِيحَ فِيهَا قِتَالُ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذِهِ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ غَيْرُ مُبَاحَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ فِيهَا إِلَّا قِتَالَ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَعْلِيلِ الْإِبَاحَة بقوله: {والفتنة أكبر من القتل} وَهَذَا تَعْلِيلٌ عَامٌّ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَقَدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ عَلَى قِتَالِ قُرَيْشٍ فِي ذي القعدة،

<<  <  ج: ص:  >  >>