عَهْدَهُمْ فَقَطَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ عَدَدًا مِنْ نَخْلِهِمْ ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَرَاهُمْ إِمَّا بِأَمْرِهِ وَإِمَّا لِإِقْرَارِهِ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ قَطْعِهَا فَقِيلَ لِإِضْرَارِهِمْ بِهَا، وَقِيلَ: لِتَوْسِعَةِ مَوْضِعِهَا لِقِتَالِهِمْ فِيهِ، فَقَالُوا وَهُمْ يَهُودُ أَهْلِ الْكِتَابِ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ، فَمِنَ الصَّلَاحِ عَقْرُ الشَّجَرِ وَقَطْعُ النَّخْلِ، وَقَالَ شَاعِرُهُمْ سِمَاكٌ الْيَهُودِيُّ:
(أَلَسْنَا وَرِثْنَا كِتَابَ الْحَكِيمِ ... عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَلَمْ يَصْدِفِ)
(وَأَنْتُمْ رِعَاءٌ لِشَاءٍ عِجَافٍ ... بِسَهْلِ تِهَامَةَ وَالْأَخْيَفِ)
(تَرَوْنَ الرِّعَايَةَ مَجْدًا لَكُمْ ... لَدَى كُلِّ دَهْرٍ لَكُمْ مُجْحِفِ)
(فَيَا أَيُّهَا الشَّاهِدُونَ انْتَهُوا ... عَنِ الظُّلْمِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤْنِفِ)
(لَعَلَّ اللَّيَالِيَ وَصَرْفَ الدُّهُورِ ... يُدْرِكْنَ عَنِ الْعَادِلِ الْمُنْصِفِ)
(بِقَتْلٍ النَّضِيرِ وَإِجْلَائِهَا ... وَعَقْرِ النَّخِيلِ وَلَمْ تُخْطَفِ)
فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
(هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيَّعُوهُ ... وَهُمْ عُمْيٌ عن التوراة نور)
(كفرتم بالقرآن وقد أوتيتم ... بِتَصْدِيقِ الَّذِي قَالَ النَّذِيرُ)
(فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ)
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ أَجْرٍ؟ أَوْ هَلْ عَلَيْنَا فِيمَا قَطَعْنَا مِنْ وِزْرٍ؟ فَحِينَئِذٍ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: ٥] وَفِي اللِّينَةِ ثَلَاثَةُ أقاويل:
أحدهما: أَنَّهَا الْعَجْوَةُ مِنَ النَّخْلِ، لِأَنَّهَا أُمُّ الْإِنَاثِ، كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ أُمُّ الْفُحُولِ، وَكَانَتَا مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ، وَلِذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ قَطْعُهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْفَسِيلَةُ، لِأَنَّهَا أَلْيَنُ مِنَ النَّخْلَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا جَمِيعُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لِلِينِهَا بِالْحَيَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: ٥٦] فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الظَّفَرِ بِالْمُشْرِكِينَ وَقُوَّةُ الدِّينِ كَانَ صَلَاحًا، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادًا، وَفِي الْآيَةِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأرض بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان.
والثاني: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْجَوْرِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بِالْعَدْلِ.