وَرَايَاتُهُ مَنْشُورَةٌ، وَسُيُوفُهُ مَشْهُورَةٌ، قَالُوا: وَهَذِهِ صِفَةُ الْعَنْوَةِ الَّتِي حَلَفَ بِهَا أَنْ يَغْزُوَهُمْ.
قَالَ: وَقَدْ رَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَنْوَةً، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ نَصًّا.
قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَتْحَ مَكَّةَ فَقَالَ لِي يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ادْعُ الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَتَوْهُ مُهَرْوِلِينَ فَقَالَ لَهُمْ: " إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ أَوْبَشَتْ أَوْبَاشَهَا، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا، حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا " فَكَانَ أَمْرُهُ بِالْقَتْلِ نَافِيًا لِعَقْدِ الصُّلْحِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ " وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُ عَنْ صُلْحٍ لكَانَ جَمِيعُ النَّاسِ آمِنِينَ بِالْعَقْدِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا تَرَوْنِي صَانِعًا بِكُمْ قَالُوا: أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ فَاصْنَعْ بِنَا صُنْعَ أَخٍ كَرِيمٍ " فَقَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ، وَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ، واليوم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: ٩٢] وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ بِالْعَفْوِ آمَنُوا لَا بالصلح
قالوا: ولأن أم هانىء أَمَّنَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ رَجُلَيْنِ فَهَمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَتْلِهِمَا، فَمَنَعَتْهُ، وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أم هانىء " وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَاسْتَحَقَّا الْأَمَانَ لَا بِالْإِجَارَةِ، وَلَمَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ أَنْ يَهُمَّ بِقَتْلِهِمَا
قَالُوا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ الْبِلَادِ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَإِنَّهَا فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ، أَوْ قَالَتْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً.
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكَّةَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَدَلَّ تَسْلِيطُهُ عَلَيْهَا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا فِيهَا، غَيْرَ مُصَالِحٍ.
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حِمَاسَ بْنَ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ أَعَدَّ سِلَاحًا لِلْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنَّكَ تَقُومُ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فقال: لها إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، وَخَرَجَ مُرْتَجِزًا يَقُولُ:
(إِنْ تُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لي علة ... هذا سلاح كامل وأله)