وَالِاسْتِرْقَاقِ، فَلَمْ يَتَعَيَّنِ الِاسْتِرْقَاقُ إِلَّا بِالِاخْتِيَارِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الذَّرَّارِي فَرُقُّوا بِالسَّبْيِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِحُكْمِ الرِّقِّ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا لَمْ يَخْلُ حُدُوثُ السَّبْيِ فِي الزَّوْجَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تُسْبَى الزَّوْجَةُ دُونَ الزَّوْجِ، فَقَدْ بَطَلَ نِكَاحُهَا بِالسَّبْيِ بِوِفَاقٍ مِنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحُكْمِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، فَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُدُوثُ الرِّقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافُ الدَّارِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُسْبَى الزَّوْجُ دُونَ الزَّوْجَةِ، فَإِنْ لَمْ يُسْتَرَقَّ وَمُنَّ عَلَيْهِ أَوْ فُودِيَ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، لَكِنْ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُدُوثُ الرِّقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِلَافُ الدَّارِ.
والْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسْبَى الزَّوْجَانِ مَعًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِحُدُوثِ الرِّقِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفِ الدَّارُ بِهِمَا؛ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمَّا اسْتَرَقَّ سَبْيَ هَوَازِنَ بِأَوْطَاسَ جَاءَتْهُ هوازن بعد إسلامهم ليستعطفونه وَيَسْتَنْزِلُونَهُ مِنْ عَلَى سَبْيِهِمْ وَرَدِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثَرُهُمْ ذَوَاتُ أَزْوَاجٍ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَنَاكِحِهِمْ، وَلَوْ بَطَلَ النِّكَاحُ بِحُدُوثِ الرِّقِّ لَأَعْلَمَهُمْ، وَلَأَمَرَهُمْ بِاسْتِئْنَافِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمْ، وَفِي تَرْكٍ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ وَصِحَّتِهِ؛ وَلِأَنَّ الرِّقَّ لَا يَمْنَعُ مِنَ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنَ اسْتِدَامَتِهِ كَالصِّغَرِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ الرِّقُّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، كَمَا تَطْرَأُ الْحَرِيَّةُ عَلَى الرِّقِّ، فَلَمَّا لَمْ يَبْطُلِ النِّكَاحُ بِحُدُوثِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى الرِّقِّ، وَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ عَلَى الْحُرِّيَّةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} إِلَى قَوْلِهِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: ٢٢ - ٢٣] وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هَاهُنَا ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، فَحَرَّمَهُنَ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُنَا بِحُدُوثِ السَّبْيِ، فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْإِبَاحَةِ فِيمَنْ كَانَ مَعَهَا زَوْجُهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سَبْيِ هَوَازِنَ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا لَمَا جَازَتِ الْإِبَاحَةُ، وَلَكَانَ التَّحْرِيمُ بَاقِيًا.
وَالْقِيَاسُ: هُوَ أَنَّهُ رِقٌّ طَرَأَ عَلَى نِكَاحٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ، كَمَا لَوِ اسْتُرِقَّ أَحَدُهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا بَطَلَ النِّكَاحُ بِاسْتِرْقَاقِ أَحَدِهِمَا؛ لِاخْتِلَافِ الدَّارِينَ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِذَا اتَّفَقَ مُوجِبُ الْعِلَّتَيْنِ لَمْ يَتَنَافَيَا، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعَارُضُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute