للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ ".

وَالْجِزْيَةُ صَغَارٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ نَفَاهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُجِزْهُ أَخْذُهَا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُرْمَةٍ ثَبَتَتْ بِالْإِسْلَامِ مَنَعَتْ مِنْ قَبُول الْجِزْيَةَ كَالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَجُزِ اسْتِرْقَاقُهُ لَمْ تُؤْخَذْ جِزْيَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ.

وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: ٢٩] فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ كُلِّ كِتَابِيٍّ مِنْ عَجَمِيٍّ وَعَرَبِيٍّ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَخَذَهَا مِنْ أُكَيْدَرِ دَوْمَةَ بَعْدَ أَسْرِهِ، وَحَمَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ غَسَّانَ أَوْ مِنْ كِنْدَةَ، وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَكْثَرُهُمْ عَرَبٌ، وَمِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَفِيهِمْ عَرَبٌ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ إِقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ جَازَ أَخْذُ جِزْيَتِهِ كَالْعَجَمِ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ أَغْلَظُ مِنْ أَخْذِ الْجِزْيَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ النَّسَبُ مِنَ الْقَتْلِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الْجِزْيَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُحْقَنَ بِالْجِزْيَةِ دَمٌ ضَعُفَتْ حُرْمَتُهُ مِنَ الْعَجَمِ، فَلِأَنْ يُحْقَنَ بِهَا دَمُ مَنْ قَوِيَتْ حُرْمَتُهُ مِنَ الْعَرَبِ أَوْلَى.

فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ إنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ سُرْعَةُ إِجَابَةِ الْعَرَبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِبْطَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْهُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ وَمَعْهُودٌ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ " فَالْقَتْلُ أَغْلَظُ، وَهُوَ يَجْرِي عَلَيْهِ، فَكَانَتِ الْجِزْيَةُ أَقْرَبَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا صَغَارُ الِاسْتِرْقَاقِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ أَنَّهُمْ لَا يُغْزَوْنَ بَعْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْعَرَبِ، فَنَحْنُ كُنَّا عَلَى هَذَا أَحْرَصَ، وَلَوْلَا أَنْ نَأْثَمَ بِثَمَنٍ بَاطِلٍ لَرَدَدْنَاهُ كَمَا قَالَ، وَأَنْ لَا يَجْرِيَ عَلَى عَرَبِيٍّ صَغَارٌ، ولكن الله أجل في أعيينا مِنْ أَنْ نُحِبَّ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ، فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْكُفْرَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُرْتَدِّ فَالْمُرْتَدُّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُ جِزْيَتِهِ، وَالْعَرَبِيُّ يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ، فَجَازَ أَخْذُ جِزْيَتِهِ.

فَأَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا.

فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " انْتَوَتْ قَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَعْنَاهُ قَرُبَتْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَالثَّانِي: اخْتَلَطَتْ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، فَدَانَتْ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَخَذَهَا عُمَرُ بِالشَّامِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>