يَخَافُونَ الِاصْطِلَامَ فَيُعْطُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ يَفْتَدِي مَأْسُورًا فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ هَذَا مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، وَالْأَوْلَى مِنَ الْهُدْنَةِ أَنْ تُعْقَدَ عَلَى مَالٍ يَبْذُلُهُ الْمُشْرِكُونَ لَنَا إِذَا أَجَابُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ، وَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى مُهَادَنَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ جَازَ، فَأَمَّا عَقْدُهَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ، فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَظْهَرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَجَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ قَاتِلِينَ وَمَقْتُولِينَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: ١١١] فَلَمْ يَجُزْ مَعَ ثَوَابِ الشَّهَادَةِ وَعِزِّ الْإِسْلَامِ أَنْ يَدْخُلُوا فِي ذُلِّ الْبَذْلِ وَصَغَارِ الدَّفْعِ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إِلَيْهِ، فَإِنْ دَعَتْ إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ، وَذَلِكَ فِي إِحْدَى حَالَتَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يُحَاطَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ أَوْ وَطْءٍ يَخَافُونَ مَعَهُ الِاصْطِلَامَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْذُلُوا فِي الدفع عن اصطلامهم مالا، يحقنون به دمائهم، قَدْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ الْخَنْدَقِ أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ، وَشَاوَرَ الْأَنْصَارَ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ هَذَا بِأَمْرِ اللَّهِ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ نَقْبَلْهُ.
وَرَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو الْغَطَفَانِيَّ رَئِيسَ غَطَفَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنْ جَعَلْتَ لِي شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَإِلَّا مَلَأْتُهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرَجُلًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَتَّى أَسْتَأْذِنَ السُّعُودَ " يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، وَأَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فَاسْتَأْمَرَهُمْ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ هَذَا بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، فَنُسَلِّمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ بِرَأْيِكَ، فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَا بِرَأْيِكَ فَوَاللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَمَرَةً إِلَّا بِشِرًى أَوْ قِرًى، فَكَيْفَ، وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِكَ فَقَالَ لَهُ: هوذا تَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِمْ فَقَدْ نَبَّهَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْأَنْصَارِ عَلَى جَوَازِ عَطَائِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ مَا يَنَالُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ نِكَايَةِ الِاصْطِلَامِ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ ذِلَّةِ الْبَذْلِ، فَافْتَدَى بِهِ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: افْتِدَاءُ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَسْرَى إِذَا خِيفَ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَكَانُوا يَسْتَذِلُّونَهُمْ بِعَذَابٍ أَوِ امْتِهَانٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمُ الْإِمَامُ فِي افْتِكَاكِهِمْ مَالًا لِيَسْتَنْقِذَهُمْ بِهِ من الذل والخطر، وافتداهم بِأَسْرَى كَانَ أَوْلَى،
وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَادَى رَجُلًا بِرَجُلَيْنِ ".
وَمَا بَذَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَالٍ فِي اصْطِلَامٍ أَوْ فِدَاءٍ فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ لِأَخْذِهِ مِنْهُمْ جَبْرًا بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً لَمْ يَغْنَمُوهُ وَأُعِيدَ إِلَى مستحقه الذي خرج منه من مال المسلم، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ وَجَدُوهُ مَعَ مُسْتَأْمَنٍ نُظِرَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute