بِغَيْرِ إِرْسَالٍ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا، فَيُذَكَّى، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَشَذَّ الْأَصَمُّ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، فَلَمْ يَعْتَبِرَا الْإِرْسَالَ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّعْلِيمِ قَدْ صَارَ مُرْسَلًا، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ أَنْ لَا يَسْتَرْسِلَ حَتَّى يُرْسِلَ، وَيَنْزَجِرَ عَنِ الِاسْتِرْسَالِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَاسْتَرْسَلَ الْكَلْبُ لِنَفْسِهِ، فَلَهُ مَعَ صَاحِبِهِ أربعة أحوال:
أحدهما: أَنْ يَتْرُكَهُ عَلَى اسْتِرْسَالِهِ، وَلَا يُشْلِيَهُ، وَلَا يزجره، فلا يؤكل ما صاده.
والحالة الثَّانِيةُ: أَنْ يَزْجُرَهُ، فَلَا يَنْزَجِرَ، فَلَا يُؤْكَلَ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِسْرَاعِ بَعْدَ الزَّجْرِ أَسْوَأُ حَالًا.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَزْجُرَهُ ثُمَّ يُشْلِيَهِ، فَيَسْتَشْلِيَ، فَيُؤْكَلَ صَيْدُهُ؛ لِأَنَّهُ صَادَهُ بَعْدَ الِانْزِجَارِ عَنْ إِرْسَالِهِ.
والحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يُشْلِيَهُ بَعْدَ الِاسْتِرْسَالِ، وَيُغْرِيَهُ بِالصَّيْدِ، فَيَمْضِيَ عَلَى إِسْرَاعٍ بَعْدَ إِشْلَائِهِ وَإِغْرَائِهِ، سَوَاءٌ زَادَ إِسْرَاعُهُ بِالْإِغْرَاءِ أَوْ لَمْ يَزِدْ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤْكَلُ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْتِرْسَالِهِ قَدِ انْقَطَعَ بما حدث من إغوائه كَمَا يَنْقَطِعُ زَجْرُهُ قَبْلَ إِغْرَائِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعْتَبَرًا بِالْآخَرِ دُونَ الْأَوَّلِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ اسْتِرْسَالٌ وَإِغْرَاءٌ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْإِغْرَاءِ دُونَ الِاسْتِرْسَالِ كَالصَّيْدِ إِذَا اسْتَرْسَلَ عَلَى طَلَبٍ، فَأَغْرَاهُ بِهِ محرمٌ ضَمِنَهُ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِغْرَاءِ، كَذَلِكَ فِي إِبَاحَةِ الْأَكْلِ.
وَدَلِيلُنَا: إِنَّ الِاسْتِرْسَالَ حَاظِرٌ وَالْإِغْرَاءَ مُبِيحٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ عَلَى إِرْسَالِهِ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ؛ وَلِأَنَّ الْإِغْرَاءَ بَعْدَ الِاسْتِرْسَالِ مُوَافِقٌ لَهُ، فَصَارَ مُقَوِّيًا لِحُكْمِهِ، وَزَائِدًا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزِدْ حُكْمُهُ بِالْقُوَّةِ وَالزِّيَادَةِ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ وَأَغْرَاهُ مُسْلِمٌ، أَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ وَأَغْرَاهُ مَجُوسِيٌّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِغْرَاءَ قَدْ قَطَعَ الِاسْتِرْسَالَ كَالزَّجْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَقْطَعُ الِاسْتِرْسَالُ مَا خَلْفَهُ وَلَا يَقْطَعُ مَا وَافَقَهُ وَالزَّاجِرُ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِرْسَالِ فَصَارَ قَاطِعًا وَالْإِغْرَاءُ مُوَافِقٌ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَاطِعًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اجْتِمَاعَ الِاسْتِرْسَالِ وَالْإِغْرَاءِ مُوجِبٌ لِتَغْلِيبِ حُكْمِ الْإِغْرَاءِ كَالْمُحْرِمِ، فهو أنه فيه لأصحابنا وجهين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِغْرَائِهِ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الِاسْتِرْسَالِ، وَيَصِيرُ دَلِيلًا لَنَا لَا عَلَيْنَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُضَمَّنُ بِالْإِغْرَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ مَأْكُولًا بِالْإِغْرَاءِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الضَّمَانِ إِيجَابٌ وَإِسْقَاطٌ، يُغَلَّبُ حُكْمُ الْإِيجَابِ عَلَى الْإِسْقَاطِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَأْكُولِ حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ يُغَلَّبُ حُكْمُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ