للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مختلفتي الحكم؛ فالجراحة الأولة مُسْتَجْلِبَةٌ لِلْحُكْمِ، مُبِيحَةٌ لِلْأَكْلِ لَوِ انْفَرَدَتْ، وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ مُسْتَهْلِكَةٌ لِلْمِلْكِ مُحَرِّمَةٌ لِلْأَكْلِ لَوِ انْفَرَدَتْ، فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجِرَاحَتَانِ مَعَ حُصُولِ الِاسْتِهْلَاكَيْنِ وَالتَّحْرِيمِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ حُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ مُخْتَصًّا بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ فَيَكُونُ الثَّانِي ضَامِنًا لِجَمِيعِ الْقِيمَةِ، وَيَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْجِرَاحَتَيْنِ وَالْقِيمَةُ مقسطة على الجراحتين؟ على أربعة أوجه:

أحدهما: وهو الظاهر على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ، إِنَّ حُكْمَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ مُضَافًا إِلَى الْجِرَاحَتَيْنِ، وَإِنَّ قِيمَةَ الصَّيْدِ الْمُسْتَهْلَكَةِ مُقَسَّطَةٌ عَلَى الْجَارِحَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ كَانَ لِسَرَايَةِ الْجِرَاحَتَيْنِ، فَلَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ حُكْمِهِمَا مِنْ تَقْسِيطِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ قَطَعَ السَّيِّدُ يَدَ عَبْدِهِ فِي السَّرِقَةِ وَقَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَهُ فِي جِنَايَةٍ، وَمَاتَ مِنْهُمَا كَانَ عَلَى الْجَانِي نِصْفُ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِمَا مُبَاحًا غَيْرَ مُضَمَّنٍ كَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْجِرَاحَتَيْنِ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ إِنَّ الضَّمَانَ مُخْتَصٌّ بِالْجِرَاحَةِ الثَّانِيةِ، وَعَلَى الْجَارِحِ الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ الْأُولَى، قَالَ: لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الأولى لما استجلبت الملك، أباحت الْأَكْلَ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمُ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهَا مِنِ اسْتِهْلَاكٍ وَتَحْرِيمٍ.

وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ لَمَّا اسْتَهْلَكَتِ الْمِلْكَ، وَحَرَّمَتِ الْأَكْلَ اخْتَصَّ بِهَا حُكْمُ مَا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالتَّحْرِيمِ؛ لِتَنَافِي الْحُكْمِ فِي الْجِرَاحَتَيْنِ، فَعُلِّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمُهَا.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: حَكَاهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ يَنْظُرَ حَالَ الصَّيْدِ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَيًّا، فَعَلَى الثَّانِي، قِسْطُهُ مِنَ الْقِيمَةِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى مَعَ إِدْرَاكِ حَيَاتِهِ قَدْ صَارَتْ كَالثَّانِيةِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ وَتَحْرِيمِهِ، فَتَقَسَّطَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِ صَاحِبِهِ إِلَّا مَيْتًا، فَعَلَى الثَّانِي جَمِيعُ الْقِيمَةِ كَمَا قِيلَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ الْأُولَى عِنْدَ فَوَاتِ ذَكَاتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي اسْتِهْلَاكِهِ، وَلَا تَحْرِيمٌ.

وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ مَضَى فِي الزَّمَانِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ قَدْرُ مَا يُدْرِكُهُ صَاحِبُهُ. فَالْقِيمَةُ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الثَّانِي قِسْطُهُ مِنْهَا كَالْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُضِيَّ زَمَانِ إِدْرَاكِهِ مُوجِبٌ لِتَحْرِيمِهِ عِنْدَ فَوَاتِ ذَكَاتِهِ، فَاسْتَوَتِ الْجَرْحَتَانِ فِي التَّحْرِيمِ فَقُسِّطَتِ الْقِيمَةُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ لَمْ يَمْضِ بَيْنَ الْجِرَاحَتَيْنِ زَمَانُ إِدْرَاكِهِ، وَالْجِرَاحَةُ الثَّانِيةُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالتَّحْرِيمِ، فَاخْتُصَّ الثَّانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ كَالْوَجْهِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ قُصُورَ الزَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَوَّلِ فِي التَّحْرِيمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>