لَمْ تَطْهُرْ إِلَّا أَنْ يَنْدَفِعَ الْمَاءُ عَنْهَا إِلَى بَحْرٍ، أَوْ نَهْرٍ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ نَجِسٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْكَلَامُ فِي كِتَابِ " الطَّهَارَةِ " وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ بِكَشْطِ الْمَوْضِعِ وَإِزَالَةِ الْمَكَانِ، وَهَذَا نَصٌّ قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَجِسَ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ وَجَبَ أَنْ يَنْجَسَ بِوُرُودِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَاءٌ قَلِيلٌ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ تَنْجِيسُهُ بِمَا ذَكَرْنَا ثَبَتَ تَنْجِيسُ الْمَكَانِ أَيْضًا
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ طَهَارَةِ الْمَكَانِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا فَمَا لَبِثَ أَنْ بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَعَجِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُمْ عَنْهُ وَقَالَ: " صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِصَبِّ الذَّنُوبِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ، وَزَوَالِ النَّجَاسَةِ بِمَا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنَ الماء، فعلم بذلك طهارة ما الفصل عَنْهَا مِنَ الْمَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَاءُ الْمُنْفَصِلُ عَنِ الثَّوْبِ نَجِسًا لَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِهِ نَجِسًا، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَوَجَبَ غَسْلُهُ، وَلَوْ وَجَبَ غَسْلُهُ لَتَعَذَّرَتْ طَهَارَتُهُ لِبَقَاءِ بَلَلِهِ فِي الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى طَهَارَةِ بَلَلِهِ، وَإِذَا كَانَ الْبَلَلُ طَاهِرًا كَانَ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ طَاهِرًا، لِأَنَّ الْمَاءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ طَاهِرًا وَبَعْضُهُ نَجِسًا، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِكَشْطِ الْمَكَانِ فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ صَحَّ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا لِوُرُودِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اطِّرَاحِ أَحَدِهِمَا وَاسْتِعْمَالِ الْآخَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَالذَّنُوبُ هُوَ: الدَّلْوُ الْكَبِيرُ قَالَ الشَّاعِرُ:
(لَنَا ذَنُوبٌ وَلَكُمْ ذَنُوبُ ... فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ)
وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالذَّنُوبِ عَنِ النَّصِيبِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: ٥٩] يَعْنِي: نَصِيبًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
(لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا غَالِبَاتٌ ... لِكُلِّ بَنِي أَبٍ مِنْهَا ذَنُوبُ)
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الذَّنُوبِ مِنَ الْمَاءِ هَلْ هُوَ حَدٌّ فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ، وَأَبُو سَعِيدٍ الِاصْطَخْرِيُّ: الذَّنُوبُ حده فِي طَهَارَةِ الْبَوْلِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ كُوثِرَ الْبَوْلُ بِدُونِ الذَّنُوبِ لَمْ يَطْهُرْ، وَإِنْ بَالَ اثْنَانِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إِلَّا دَلْوَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute