قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِنْدَ الذَّبْحِ، فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً إِجْمَاعًا، وَلَا مَكْرُوهَةً عِنْدَنَا، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اسْتِحْبَابِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ وَلَا مَكْرُوهَةٍ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتِجَاجًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَوْطِنَانِ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا عِنْدَ الذَّبِيحَةِ وَالْعُطَاسِ "؛ وَلِأَنَّهُ يَسِيرُ بِذِكْرِهِ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَدَلِيَلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) {الشرح: ٤) قِيلِ: مَعْنَاهُ لَا أُذْكَرُ إِلَّا ذُكِرَتْ مَعِيَ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (الأحزاب: ٥٦) الْآيَةَ فَكَانَ عِنْدَ الْقُرْبِ بِالذَّبَائِحِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ أَدْخَلَ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ أَنْ كَرِهُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ لِمَوْضِعِ غَفْلَتِهِمْ أَوْ لَا يَرَى لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَسَبَقَنِي، فَجِئْتُ فَرَأَيْتُهُ سَاجِدًا، فَأَقَمْتُ طَوِيلًا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَبَضَ رُوحَكَ فِي سُجُودِكَ لَمَّا أَطَلْتَ فَقَالَ: لَمَّا فَارَقْتُكَ لَقِيَنِي جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَنِي عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، فَسَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْرَهُ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: آمِينَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: رَغِمَ أَنْفُ مَنْ ذُكِرْتَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ الثَّانِيةَ فَقَالَ: آمِينَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ رَغِمَ أَنْفُ عبدٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ فَقُلْتُ آمِينَ، ثُمَّ رَقِيَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: آمِينَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ رَغِمَ أَنْفُ عبدٍ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرُ لَهُ فَقُلْتُ آمِينَ ".
وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الرَّسُولِ إِيمَانٌ بِالْمُرْسَلِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ مَكْرُوهًا فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَوْطِنَانِ " لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ لَيْسَ يَنْهَى عَنْ ذِكْرِهِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذِكْرِهِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لِمَ لَا أَذْكُرُ فِيهِمَا.
وَالثَّانِي: إِنَّهُ لَا يُذْكَرُ فِيهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُذْكَرُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الذَّبِيحَةِ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا وَجْهَهُ فِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ رَسُولُهُ، وَذِكْرُهُ فِي الْعُطَاسِ حَمْدٌ لَهُ وَلَيْسَ يُحْمَدُ رَسُولُهُ عِنْدَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، فَلَمْ يَتَوَجَّهِ النَّهْيُ إِلَيْهَا.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ إِنَّهُ يَصِيرُ مِمَّا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَهُوَ أَنَّهُ يَصِيرُ بِذَبْحِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِلَّهِ، وَمَتَى فَعَلَ هَذَا كَانَ حراماً.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute