ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْحَلَالَ والحرام، كما قال: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} يَعْنِي مِنَ الْحَلَالِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَمَّا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: الْحَلَالُ الْحَلَالُ، وَالْحَرَامُ الْحَرَامُ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانٌ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الطَّاهِرَ وَالنَّجِسَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (النساء: ٤٣) . أَيْ: طَاهِرًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا، لِأَنَّ الطَّاهِرَ وَالنَّجِسَ مَعْرُوفٌ بِشَرْعٍ آخَرَ، فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا بَيَانٌ شَرْعِيٌّ يَعْنِي عَنْ غَيْرِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا كَانَ مُسْتَطَابَ الْأَكْلِ فِي التَّحْلِيلِ، وَمُسْتَخْبَثَ الْأَكْلِ فِي التَّحْرِيمِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ إِذَا بَطَلَ مَا سِوَاهُ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ بِمَا اسْتَطَابُوهُ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْلِيلِهِ، وَبِمَا اسْتَخْبَثُوهُ إِلَى الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلًا وَصَارَ الْمُسْتَطَابُ حَلَالًا وَالْمُسْتَخْبَثُ حَرَامًا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ الْوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَطِيبُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ غَيْرُهُ، فَيَصِيرُ حَلَالًا لَهُ وَحَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ مَا عَمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِيهِ الْعُرْفُ الْعَامُّ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ عُرْفُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فِي بَعْضِ الْأَرْضِ، فَاحْتِيجَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَنْ خُوطِبَ بِهِ مِنَ النَّاسِ وَمَعْرِفَةِ مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَكَانَ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمُ الْعَرَبَ لِأَنَّهُمُ السَّائِلُونَ الْمُجَابُونَ، وَأَحَقُّ الْأَرْضِ مِنْ بِلَادِهِمْ، لِأَنَّهَا أَوْطَانُهُمْ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَسْتَطِيبُونَ وَيَسْتَخْبِثُونَ بِالضَّرُورَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَيَسْتَطِيبُ أَهْلُ الضَّرُورَةِ مَا اسْتَخْبَثَهُ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ عُرْفُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، دُونَ أَهْلِ الضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الضَّرُورَةِ عُرْفٌ مَعْهُودٌ، وَهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَيَسْتَطِيبُ الْفَقِيرُ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الْغَنِيُّ.
وَالثَّانِي: بِالْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، فَيَسْتَطِيبُ الْبَادِيَةُ مَا يستخبثه الحاضرة.
والثالث: بزمان الجدب وزمان بالخصب، فَيُسْتَطَابَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ مَا يَسْتَخْبِثُ فِي زَمَانِ الْخِصَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ مِنْ جَمْعِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ، وَهُمُ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ، أَوْ سُكَّانُ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى دُونَ الْبَادِيَةِ، وَفِي زَمَانِ الْخِصَبِ دُونَ زَمَانِ الْجَدْبِ، مِنَ الْعَرَبِ دُونَ الْعَجَمِ، وَبِلَادِهِمْ دُونَ غَيْرِهَا، فَتَصِيرُ الْأَوْصَافُ الْمُعَيَّنَةُ فِيمَنْ يَرْجِعُ إِلَى اسْتَطَابَتِهِ وَاسْتِخْبَاثِهِ خَمْسَةً:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا عَرَبًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا فِي بِلَادِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، دُونَ الْفَلَوَاتِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ مِنْ أهل السعة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute