للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن أقسمت يمين مُنْعَقِدَةً، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرِسُولُ اللهِ) {المنافقون: ١) . ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة) {المنافقون: ٢) . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ " أَشْهَدَ " يَمِينٌ لَازِمَةٌ.

وَرَوَى رَاشِدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: أَهَدَتْ لَنَا امْرَأَةٌ طَبَقًا فِيهِ تَمْرٌ، فَأَكَلَتْ مِنْهُ عَائِشَةُ، وَأَبْقَتْ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا أَكَلْتِيهِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِرِّيهَا، فَإِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُحْنِثِ " فَجَعْلَهَا يَمِينًا ذَاتَ برٍّ وحنثٍ.

وَرُوِيَ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّهُ أَتَى بِأَبِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيُبَايِعَهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ". فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: الْآنَ بَرَرْتَ قَسَمِي، فَسَمَّاهُ قَسَمًا، وَلِأَنَّ عُرْفَ الْقَسَمِ فِي الشَّرْعِ وَالِاسْتِعْمَالِ يَكُونُ بِاللَّهِ تَعَالَى دُونَ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ.

وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشهَادَةُ أَحِدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (النور: ٦) . وَاللِّعَانُ يَمِينٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شأنٌ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى تَقْتَرِنَ بِذِكْرِ اللَّهِ.

وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَفْظٌ عَرِيَ عَنِ اسْمٍ وَصْفَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ يَمِينٌ تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ.

أَصْلُهُ إِذَا قَالَ: أُولِي لِأَفْعَلَنَّ هَذَا، لِأَنَّ الْأَلْيَةَ، وَالْقَسَمَ وَاحِدٌ، وَقِيَاسًا عَلَيْهِ إِذَا حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ الْمُكَفَّرَةَ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ مُعَظَّمٍ لَهُ حُرْمَةٌ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْقَسَمُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ سَقَطَتْ حُرْمَتُهُ، فَسَقَطَتْ كفارته.

وأما الجواب عن قوله تعالى: {إِذَا أَقْسَمُوا لَيَصْرِمَنَّهَا مُصْبِحِينَ) {القلم: ١٧) . فَهُوَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْقَسَمِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِفَةِ الْقَسَمِ، كَمَا لَوْ قِيلَ: حَلَفَ فَلَانٌ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا حَلَفَ بِهِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرَيْنِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ.

وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَذَفَ ذِكْرَ اللَّهِ مِنْهُ اقْتِصَارًا عَلَى الْعُرْفِ فِيهِ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ إِطْلَاقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُرْفَيْنِ فِيهِ، فَهُوَ أَنَّ الْعُرْفَ مِنَ الْقَسَمِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ بِاللَّهِ تَارَةً وَبِغَيْرِ اللَّهِ أُخْرَى، كَمَا لَوْ قال: حلفت،

<<  <  ج: ص:  >  >>