قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا هُوَ سَاكِنُهَا بِمَاذَا يَبَرُّ فِي يَمِينِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَبَرُّ إِذَا انْتَقَلَ مِنْهَا بِبَدَنِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مذهب مالك إنَّهُ لَا يَبَرُّ إِلَّا أَنْ يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِنَقْلِ مَالِهِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُ لَا يَبَرُّ، حَتَّى يَنْتَقِلَ بِبَدَنِهِ وَعِيَالِهِ وَمَالِهِ؟ فَمَتَّى خَلَّفَ أَحَدَهَا حَنِثَ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ إنَّ بِرَّهُ مُعْتَبَرٌ بِنَقْلِ بَدَنِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يَنْقُلَ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ، وَإِنْ خَلَّفَ فِيهَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ فِي سُكْنَاهَا بَرَّ، وَإِنْ خلف ما يستقل به في سكانها حَنِثَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي أَنَّ الْبِرَّ لَا يَخْتَصُّ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اسْتَضَافَ رَجُلًا بِبَدَنِهِ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى السُّكْنَى عِنْدَهُ لِخُرُوجِهِ عَنْ عرف السكنى، فصار العيال والمال من جملة السكنى.
وَالثَّانِي: إنَّ مَنْ خَلَّفَ عِيَالَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِهِ، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى دُكَّانِهِ، أَوْ بُسْتَانِهِ لَا يُشَارُ بِسُكْنَاهُ إِلَى مَكَانِهِ وَيُشَارُ بِهِ إِلَى دَارِهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عِيَالِهِ وَمَالِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {رَبَّنَا إِنِّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتِي بِوَادٍ غَيْرَ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ) {إبراهيم: ٣٧) فَكَانَ بِالشَّامِ وَوَلَدُهُ وَأُمُّهُ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُكْنَى الشَّامِ وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ فِي غَيْرِهَا.
وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهَا بَعْدَ الِانْتِقَالِ عَنْهَا بِبَدَنِهِ، لِبَقَاءِ عِيَالِهِ وَمَالِهِ لَوَجَبَ إِذَا سَافَرَ بِبَدَنِهِ أن يكون كالمقيم في المنع من قصره وفطره، فَلَمَّا أُجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ السَّفَرِ وَجَبَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ الِانْتِقَالِ، وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ لَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ كَانَ كَالْمُسْتَوْطِنِ لَهَا فِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ عِيَالُهُ وَمَالُهُ فِي غَيْرِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِبَدَنِهِ دُونَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَنَا مُقِيمٌ بِمِصْرَ، وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَكُتُبِي بمكة أفتراني ساكن بِمَكَّةَ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ يَمِينَهُ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَتَعَلَّقُ بِحَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِالضَّيْفِ فَهُوَ أَنَّهُ نَزَلَهَا ضَيْفًا، فَلَمْ يَنْطَلِقْ عَلَيْهِ اسْمُ السُّكْنَى، وَإِنْ كَانَ مَعَ عِيَالِهِ وَمَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَصَدَ السُّكْنَى فَكَانَ اخْتِلَافُ الِاسْمَيْنِ