فَيُغَيِّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ، أَوْ يَلْبَسُهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَقَعُ بِهِ حِنْثُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ، فَإِنْ غير القميص سراويل أو ارتدى به أو غير السراويل مَنْدِيلًا، أَوِ اتَّزَرَ بِهِ حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ وَلِحُكْمِ الْفِعْلِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ يَحْنَثُ بِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا لَبِسْتُ ثَوْبًا وَهُوَ رِدَاءٌ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ صِفَةً لِلثَّوْبِ، وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْحَالِفِ شَرْطًا فِي الْحِنْثِ، لِأَنَّ الْحَالِفَ لَوْ قَالَ: " هَذَا لَمْ يَحْنَثْ إِذَا لَبِسَهُ وَهُوَ غَيْرُ رِدَاءٍ ".
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُزَنِيِّ، وطائفةٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا إنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِلُبْسِهِ، إِذَا غَيَّرَهُ عَنْ صِفَتِهِ، وَلَا إِذَا لَبِسَهُ عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ، فَإِنْ جعل الرداء قميصاً، أو القميص سراويل، وارتدى بالقميص، أو اتزر بالسراويل، لم يحنث، حق يتقمص بالقميص، ويتسرول بالسراويل وَيَرْتَدِيَ بِالرِّدَاءِ، فَيَجْمَعَ بَيْنَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَبَيْنَ لُبْسِهِ عَلَى عَادَتِهِ، حَتَّى حُكِيَ عَنِ الْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَاتَمًا، فَلَبِسَهُ فِي غَيْرِ الْخِنْصَرِ مِنْ أَصَابِعِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ عَادَةِ لُبْسِهِ، وَالْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي الْأَيْمَانِ شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ، ولأن المحرم ممنوع من لبس القميص، والسراويل، ولو ارتدى بالقميص واتزر بالسراويل، جَازَ وَلَمْ يُكَفِّرْ.
وَتَأَوَّلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِحِنْثٍ عَلَى النَّفْيِ أَيْ لَا يَحْنَثُ بِهِ وَهَذَا التَّأْوِيلُ لِكَلَامِهِ زَلَلٌ مِنْ قَائِلِهِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا نَحْسُبُهُ إِلَّا عَلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ ضِدُّ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَفْيٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى نَفْيٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يستثني النَّفْي مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَيسْتَثْني الْإِثْبَات مِنَ النَّفْيِ، فَدَلَّ عَلَى فَسَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ لِمَا قَالَهُ مِنَ الْحُكْمِ وَجْهٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إنَّهُ إِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الثَّوْبِ حَنِثَ بِلُبْسِهِ، عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، فَإِنِ اشْتَمَلَ بِهِ أَوِ ارْتَدَى أَوْ تَعَمَّمَ، أَوْ قَطَعَهُ قميصاً، أو سراويل حَنِثَ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى قَمِيصٍ لَمْ يحنث إذا غيره فجعله سراويل، أَوِ ارْتَدَى بِهِ، وَلَمْ يَتَقَمَّصْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الثَّوْبِ وَالْقَمِيصِ بِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ عَامٌّ، يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ مَلْبُوسٍ، وَلَا يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الثَّوْبِ وَإِنْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ، وَاسْمَ الْقَمِيصِ خَاصٌّ، يَزُولُ عَنْهُ اسْمُ الْقَمِيصِ، إِذَا غَيَّرَهُ فجعل سراويل، أَوْ يَخْرُجُ عَنِ الْعُرْفِ، إِذَا لُبِسَ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ مِنَ الِارْتِدَاءِ بِهِ فَلَمْ يَحْنَثْ بِتَغْيِيرِ لُبْسِهِ، وَلَا بِتَخْيِيرِ قَطْعِهِ، لِوُقُوعِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الِاسْمِ عَلَى الثَّوْبِ إِذَا غُيِّرَ لِعُمُومِهِ وَزَوَالِهِ عَنِ الْقَمِيصِ، إِذَا غُيِّرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute