للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُطْمَئِنُ بِالإيْمَانِ} فَعَقَلْنَا أَنَّ قَوْلَ الْمُكْرَهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُكْمِ وَعَقَلْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ هُوَ أَنْ يُغْلَبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ فَإِذَا تَلَفَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيَفْعَلَنَّ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ فعلٍ مِنْهُ فَهُوَ فِي أَكْثَرَ مِنَ الْإِكْرَاهِ ".

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمُقَدِّمَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ:

أْحَدُهُمَا: يَحْنَثُ بِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحْنَثُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.

فَإِذَا قِيلَ: يَحْنَثُ فَدَلِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَدْتُمْ الأَيْمَانَ) {المائدة: ٨٩) فَكَانَ عَقْدُهَا مُوجِبًا لِلْمُؤَاخَذَةِ بِالْكَفَّارَةِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ مِنْ عَمْدٍ وَخَطَأٍ وَعِلْمٍ وجهلٍ وَاخْتِيَارٍ وإكراهٍ وَلِأَنَّ إِطْلَاقَ عَقْدِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهَا مُوجِبٌ لِحَمْلِهَا فِي الْحِنْثِ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهَا مُوجِبٌ لِتَقْيِيدِ الْحِنْثِ فِيهَا اعْتِبَارًا بِالنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ وَالْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إِطْلَاقَ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) {المائدة: ٩٥) مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَإِطْلَاقَ قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ " مُوجِبٌ لِإِبْطَالِ النِّكَاحِ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَطْهِيرٌ فَأَشْبَهَتْ طَهَارَةَ الْحَدَثِ فَلَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْحَدَثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ الْحِنْثِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَإِذَا قِيلَ لَا يحنث، فدليله قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) {الأحزاب: ٥) فَكَانَ رَفْعُ الْجَنَاحِ فِي الْخَطَأِ مُوجِبًا لِإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنِ الْخَاطِئِ، وَبِمَا رَوَاهُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " فَكَانَ حُكْمُ الْأَيْمَانِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ هَذَا التَّجَاوُزِ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ النَّوَاهِي فِي الشَّرْعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمْدِ دُونَ السَّهْوِ، كَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ فِي الصِّيَامِ، كَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْأَيْمَانِ لَمَّا لَمْ يَلْزَمْ إِلَّا بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَجَبَ أن يكون حلها بِالْحِنْثِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ قصدٍ وَاخْتِيَارٍ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، وَالْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُونَ إِلَى تَصْحِيحِ الْقَوْلِ بِأَنْ لَا حِنْثَ عَلَى النَّاسِي، لِمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ فَقَالَ لِي أَبُو الْقَاسِمِ الصَّيْمَرِيُّ: مَا أَفْتَيْتُ فِي يَمِينِ النَّاسِي بشيءٍ قَطُّ، وحكى عن شيخه أبي الغياض أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بشيءٍ قَطُّ، وَحَكَى أبو الغياض عَنْ شَيْخِهِ أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا بشيءٍ قَطُّ فَاقْتَدَيْتُ بِهَذَا السَّلَفِ وَلَمْ أُفْتِ فِيهَا بشيءٍ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّوَقِّي أَحْوَطُ مِنْ وَرَطَاتِ الْإِقْدَامِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>