(آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ)
أَيْ: أَعْلَمَتْنَا، فَإِذَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَاللُّغَةِ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ الْإِعْلَامَ صَارَ شَرْطًا فِيهِ، فَإِنْ عُدِمَ لَمْ يَكْمُلِ الْإِذْنُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْبِرُّ.
وَالثَّانِي: إنَّ الْإِذْنَ أَمْرٌ يُخَالِفُ مَا بَعْدَهُ حُكْمَ مَا قَبْلَهُ، فَجَرَى مَجْرَى النَّسْخِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالنَّسْخِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ كَذَلِكَ الْعِلْمُ، بِالْإِذْنِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ.
وَالثَّالِثُ: إنَّهُ أَلْزَمَهَا بِخُرُوجِهِ عَنْ إِذْنِهِ أَنْ تَكُونَ مُطِيعَةً فِي الْخُرُوجِ، فَإِذَا لَمْ تَعَلَمْ بِالْإِذْنِ صَارَتْ عَاصِيَةً بِالْخُرُوجِ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْخُرُوجَ الْمَأْذُونَ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ بِهِ، وَيَصِيرَ عَدَمُ عِلْمِهَا بِالْإِذْنِ جَارِيًا مَجْرَى عَدَمِ الْإِذْنِ، لِوُجُودِ الْمَعْصِيَةِ فِيهِمَا، كَمَنْ بَاعَ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مَالِكًا لَهُ، كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا، وَجَرَى عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْمِلْكِ مَجْرَى عَدَمِ الْمِلْكِ.
وَالرَّابِعُ: إنَّ الْإِذْنَ يَفْتَقِرُ إِلَى آذِنٍ وَمَأْذُونٍ لَهُ، كَالْكَلَامِ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى قَائِلٍ وَمُسْتَمِعٍ، فَلَمَّا كَانَ الْمُنْفَرِدُ بِالْكَلَامِ يَسْلُبُهُ حكم الكلام، وجب أن يكون المنفرد بلاإذن يَسْلُبُهُ حُكْمَ الْإِذْنِ.
وَدَلِيلُنَا أَرْبَعَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أن الأذن يختص بالآذان، وَالْعِلْمَ بِهِ مُخْتَصٌّ بِالْمَأْذُونِ لَهَا، وَشَرْطُ يَمِينِهِ إِنَّمَا كَانَ مَعْقُودًا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْإِذْنِ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْعِلْمِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْإِذْنِ يَنْطَلِقُ عَلَى إِذْنِهِ دُونَ عِلْمِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ تَفَرُّدُهُ بِالْإِذْنِ مُوجِبًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا يَقَعُ بِهِ الْحِنْثُ، كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ قُمْتُ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طُلِّقَتْ بِقِيَامِهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ.
وَالثَّانِي: إنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا فِي الْإِذْنِ لَكَانَ وُجُودُهُ مِنَ الْحَالِفِ شَرْطًا فِيهِ، كَمَا كَانَ وُجُودُ الْإِذْنِ مِنْهُ شَرْطًا فِيهِ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهَا لَوْ عَلِمَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ صَحَّ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ، دَلَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ حُقُوقِ الْإِذْنِ، وَصَحَّ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ.
وَالثَّالِثُ: إنَّهُ قَدْ حَظَرَ الْخُرُوجَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ، وَأَبَاحَهَا الْخُرُوجَ بِالْإِذْنِ، فَصَارَ عَقْدُهَا جَامِعًا بَيْنَ حَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ، وَالِاسْتِبَاحَةُ إِذَا صَادَفَتْ إِبَاحَةً لَمْ يُعْلَمْ بِهَا الْمُسْتَبِيحُ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْحَظْرِ، كَمَنِ اسْتَبَاحَ مَالَ رَجُلٍ قَدْ أَبَاحَ لَهُ، وَهُوَ لَا يعلم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute