للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي مَسْجِدِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَضَى مِنَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُمْ فِي المسجد لَمْ يَكُنْ مَقْصُورًا عَلَى الْقَضَاءِ فِيهِ.

وَأَمَّا مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ مَجْلِسًا لِقَضَائِهِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَرَاهَتِهِ رِوَايَتَانِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بن الخطاب مستندا إلى القبلة يقضي بين الناس.

وَقَالَ الْحَسَنُ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَدْ أَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى كَوْمَةِ خَطَّارٍ وَنَامَ عَلَيْهِ وَأَتَاهُ سَقَّاءٌ بِقِرْبَتِهِ وَمَعَهُ خَصْمٌ فَجَلَسَ عُثْمَانُ وَقَضَى بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ.

وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يُكْرَهْ.

وَدَلِيلُنَا عَلَى كَرَاهَتِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يُنْشِدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: " لَا وَجَدْتَهَا إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ " فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ مَا عَدَاهُمَا فِيهِ.

وَرَوَى مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ ".

وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى الْقُضَاةِ أَنْ لَا تَقْضُوا فِي الْمَسَاجِدِ.

وَسَمِعَ عُمَرُ رَجُلًا يَصِيحُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؛ وَلِأَنَّ حُضُورَ الْخُصُومِ لَا يَخْلُو مِنْ لَغَطٍ وَمُنَابَذَةٍ وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَى سَبٍّ وَمُشَاتَمَةٍ، وَالْمَسَاجِدُ تُصَانُ عَنْ هَذَا وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ فِي الْخُصُومِ جُنُبٌ وَحَائِضٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا دُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ لَغَطَ الْخُصُومِ يَمْنَعُ خُشُوعَ الْمُصَلِّينَ، وَسَوَاءٌ صَغُرَ الْمَسْجِدُ أَوْ كَبُرَ.

فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِنَّمَا كَانَ نَادِرًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>