للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَحَدُهُمَا: مَا وُكِّلَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي بَيَانِهِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ: مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: ٢٩] فَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: ٩] فَأُجْمِلَ ذِكْرُ الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: ٧] فَأُجْمِلَ قَدْرُ النَّفَقَةِ فِي أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا حَتَّى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِيرِهَا فَهَذَا وَنَظَائِرُهُ مِنَ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَيَانِ السَّمْعِ فَبَيَانُهُ سَاقِطٌ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمَشْهُورَةِ، سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْكَلَالَةِ فَقَالَ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " فَوَكَلَهُ إِلَى الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ.

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ الصَّادِرِ عَنْ الِاجْتِهَادِ هَلْ يُؤْخَذُ قِيَاسًا أَوْ تَنْبِيهًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا مِنْ لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِعُمَرَ فِي الْكَلَالَةِ: " تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ " فَرَدَّهُ إِلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَهَا مِنْ تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بَيَانُهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِلَا ازْدِرَادٍ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنَ الْمُجْمَلِ: مَا يَفْتَقِرُ بَيَانُهُ إِلَى السَّمْعِ، كَقَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] لَا يُوصَلُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنْ نَصٍّ مَسْمُوعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.

فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ وَبَيَانُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ نُزُولِهِ إِلَى وَقْتِ تَنْفِيذِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: يَجُوزُ أَنْ يُؤَخَّرَ بَيَانُ الْعُمُومِ وَالْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ التَّنْفِيذِ وَالِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّ مُعَاذًا أَخَّرَ بَيَانَ الزَّكَاةِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُمْ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعُمُومِ عَنْ وَقْتِ النُّزُولِ إِلَى وَقْتِ التَّنْفِيذِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ وَلِيَحْتَرِزَ بِتَعْجِيلِهِ مِنِ اخْتِرَامِ الْمَنِيَّةِ لِلرَّسُولِ الْمُبينِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ مَفْهُومٌ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبَيَانِ غَيْرُ مَفْهُومٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>