للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: ٢٨١] وَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةُ {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْمُفَصَّلِ. وَالنَّسْخُ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُ وَيَخْتَصُّ بِالْمُتَأَخِّرِ فِي التَّنْزِيلِ دُونَ التِّلَاوَةِ.

وَإِنْ أَشْكَلَ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ الرَّسُولِ: فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ بَيَانُ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لَهُ وَلَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً.

وَإِنْ عُدِمَ بَيَانُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ فَإِنِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْيِينِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ عَمِلَ عَلَيْهِ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ مُبَيِّنًا وَلَمْ يَكُنْ نَاسِخًا.

وَإِنْ عَدَمَ الْإِجْمَاعَ عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَعْمَلًا وَالْآخَرُ مَتْرُوكًا كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ نَاسِخًا وَالْمَتْرُوكُ مَنْسُوخًا.

فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيَانٌ إِمَّا لِاشْتِبَاهِهِ أَوْ لِاشْتِرَاكِهِ عَدَلَ إِلَى الدَّلِيلِ الْخَامِسِ: وَهُوَ الترجيح بشواهد الأصول وتطلب الْأَدِلَّةَ وَكَانَتْ غَايَةُ الْعَمَلِ بِهِ.

وَسَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ فَفِي ضِمْنِ تِلَاوَتِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا لَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، مِثْلُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي حَدِّ الزِّنَا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: ١٥] دَلَّ قَوْلُهُ: {أو يجعل الله لهن سبيلا} ، أن حكمها لا يدوم فنسخها آيَةُ النُّورِ فِي قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مائة جلدة} [النُّورِ: ٢] وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ " وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ هَذَا الْقَائِلُ يَبْعُدُ أَنْ يُوجَدَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَنْسُوخَةٍ، لَكِنَّهُ مُعْتَقِدٌ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ تَكُونُ نَسْخًا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي شَوَاهِدِ الْمَنْسُوخِ، وليست الزيادة عندنا على النص نسخا.

( [القول في الفرق بين التخصيص والنسخ] )

وَأَمَّا الْقِسْمُ السَّابِعُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ: فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا بِهِ وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ وَلَا مُقْتَرِنًا بِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ.

وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانُ مَا أُرِيدَ بالعموم، النسخ بَيَانُ مَا لَمْ يُرَدْ بِالْمَنْسُوخِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>