للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَوَاجِبٌ عَلَى الرَّاوِي أَنْ يَنْقُلَهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا يُعَبِّرَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ لِيَكُونَ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ وَالْخَفَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحْتَمَلًا ولا خفيا إلا لمصلحة وليكل اسْتِنْبَاطَهُ إِلَى الْعُلَمَاءِ.

وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ كَقَوْلِهِ: " الْخَيْرُ كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ " فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُ مِنَ التَّابِعِيِنَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ حَتَّى يَنْقُلَ اللَّفْظَ عَلَى صِيغَتِهِ فَيُورِدَ الْمَعْنَى بِأَلْفَاظِهِ.

وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَرِفَ مَخْرَجَ كَلَامِهِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: اخْتَلَفَ فِيهِمَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَحْفَظُ اللَّفْظَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُحَفَظِ اللَّفْظُ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ، لِأَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى؛ فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا وَإِنْ عَجَزَ عَنِ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مُقَصِّرًا فِي نَقْلِ مَا تَحَمَّلَ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَعْنَى مِنَ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةِ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣] .

وَأَمَّا الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُنْقِصَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخَبَرِ: فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ يَصِيرَ الْبَاقِي مِنْهُ مَبْتُورًا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ لِيُتِمَّ فَائِدَةَ الْخَبَرِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي مَفْهُومًا لَكِنْ يَكُونُ ذِكْرُ الْمَتْرُوكِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ مِثْلُ قَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ ينار. وَقَدْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَقْضِيهِ إِلَّا جَذَعَةً مِنَ الْمَعْزِ فَقَالَ " تَجْزِيكَ وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ " فَلَوْ رَوَى النَّاقِلُ أَنَّهُ قَالَ: تَجْزِيكَ لَكَانَ مَفْهُومًا يَقْتَضِي أَنْ تَجْزِيَ جَمِيعَ النَّاسِ فَلَمَّا قَالَ: " وَلَا تَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ " دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ أَبِي بُرْدَةَ بِهَذَا الْحُكْمِ. فَلَزِمَ الرَّاوِي فِي مِثْلِ هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَرْوِيَ بَاقِيَ قَوْلِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>